دخل غرفتي بغتة كالعاصفة.. سحبني من شعري.. بدت ملامحه تتموج.. عيناه جمرتان متقدتان. ضاعت الكلمات من فوق شفتيه الراعشتين.. صار يهذي وينتفض وكأنه محموم. تارة يرفع رأسه إلى أعلى، وتارة يحركه ببطء إلى اليمين ثم إلى اليسار.. كأنه مصروع أو يناجي أحدا في الفضاء. فجأة هوت يده مثل الصاعقة ودكت وجهي الصغير حتى سمعت طنينا عاليا يدوّي في أذني.. جمّعت أطرافي وطوقت جسدي وحضنت رأسي. وقف بكامل هيئته الضخمة وبدأ يركلني بقدميه الحجريتين على خاصرتي.. كنت أصرخ وأتلوى، ورأيت أنني أموت على مرأى من عيني، وأن جسدي بدأ يفقد علاقته مع رأسي. بدأت الدنيا تدور، ودقات قلبي تتسارع بصخب بالغ، وقواي تغادرني وصوتي يضيع. أرخى رأسه بعد أن أغمض عينيه للحظة ثم رفعه إلى أعلى وبدأ يهذي من جديد. استدار وتركني جثة هامدة. وفي لمح البصر اجتاحته نوبة جنون وأخذ يحطم أشيائي: مقابل سريري تنتصب مرآتي الحميمة.. يعلوها ضوء شحيح يتنزل بتؤدة كالضباب.. أسفلها منظر لحقل صغير وادع يطل عليه حصان خمري اللون. تلك المرآة هي أنا. أحيانا أفشي أسراري المطمورة أمامها.. هي مرآتي التي ألجأ إليها هنا حين يخذلني الخارج.. هي حبيبتي في الليل والنهار والشتاء والصيف وأوقات الفرح والبكاء المجيد.
قبل أن يأتي كنت قد تزينت وتعطرت وارتديت أجمل ملابسي وقلبي يكاد أن يفر من مكانه العتيق وكنت على موعد أبيض. حطم المجنون مرآتي وتناثرت أشلاؤها الفضية في الفضاء. يسار مرقدي دفاتر وكتب وصورتي الأثيرة: كنت في الخامسة عشر.. وجهي يضحك بلا حياء وينطوي على براءة فائقة، وعيناي مفتوحتان على وسعهما.. شعري طويل ومنسدل وأنا على حافة البحر. حين أدخل غرفتي وتستقبلني صورتي أصير في الخامسة عشر وتصعد رائحة الماء إلى رأسي. كان البحر أمامي ينسحب رويدا رويدا، ويترك شيئا من أثره وعطره وطعمه وصخبه، وأنا عيناي صافيتان. أخذ المجنون صورتي الأثيرة بين يديه ورفعها إلى أعلى ثم بدأ يتمتم ويرتعد وقذفها بقوة، حتى كأني سمعت صوت أنين خافت يتسرب من جدران غرفتي.
أنا أحب غرفتي فهي عالمي وحريتي الطائلة.. حين أدخلها أنثر ملابسي وأرتمي بجسدي المنهوك على فراشي وأغط في حلم عميق.. ولما ينبزغ النور تدق في بعض الصباحات يمامة نافذتي فأقوم وألبي نداءها، ثم تقودني قدماي العاريتان إلى تحت الماء السخي مع صوت موسيقا هادئة.. أصير جسدا يلهو وتجوس فيه أصابعي أنى تشاء.
التفت المجنون إلى أوراقي وشرع في تمزيقها.. بعضها قصائد ليلية وحكايات ناقصة.. ثم أخذ يهشم جهاز الموسيقا والأشرطة وقوارير العطور. أطلق زفرة ارتياح ومضى سعيدا لا يلوي على شيء.