للأديب القاص عبدالواحد اليحيائي عالمه السردي الخاص، حيث يطالع القارئ ودون عناء اللمسات التي يتركها قلمه على أي قصة يكتبها، بل يستشعر القارئ دائما لقصص اليحيائي أنها كتبت لتحقق معادلة التميز (المتعة/الفائدة) فقل إن تخرج أي قصص يكتبها عبدالواحد دون أن تجد متعة أو فائدة، فهو الذي يعتني بتفاصيل حكايته، ويحدد أطر السرد فيها، ويوزع الأدوار على الشخوص بشكل متقن، بل إن اللغة في جل القصص ذات بعد جمالي يؤصل مفهوم المتعة ويحقق الفائدة المرجوة من مثل هذه القصص التي يستردها الكاتب من عمق الذاكرة.
عبدالواحد اليحيائي يذكرنا بقائد الفرقة الموسيقية (الأوركسترا) المحنك، ذلك الذي يقف طويلاً مع فريقه من أجل تهيئة العمل، بل نراه يدوزن العمل القصصي وكأنه معزوفة يريد منها الوصول إلى المتلقى بشكل سليم، تماماً مثلما فعل في فاتحة المجموعة (الإهداء) حيث توامض القص كمقطوعة ذائعة الجمال.. قصة تهيل من كرم الود ما تعجز القصائد عن الوفاء به لسيرة يرى اليحيائي أنها جديرة بهذه الإيماءة الأولى في مجموعته التي ضمنها عبارة صور قصصية مؤكداً على أن الصورة المعيرة هي الأساس.
في قصة (دخان) ومضة عابرة لمشهد غريب تمثل في رحلة السيجار بين الإشعال والمنفضة.. رحلة عرض فيها الكاتب شريطان من الذكريات، أهمها الحرب والحب والثورة والحرية وما إلى تلك الرؤى التي تتواثب عن (الصورة/الرمز) في حياتنا: (تسي جيفارا) (جمال عبدالناصر) (كاسترو) و(صدام حسين) وآخرين يقارنون دائما بالفكرة والقضية والثورة وأشياء أخرى.
ففي قصة (روتين) التي حملت اسم المجموعة واقع كاريكاتوري يحتاج إلى تأمل، لاسيما حينما تكون الصور معبرة عن همومنا اليومية المضحكة المبكية، فالوقع الذي تتركه قصة (روتين) هو بمثابة شهادة قوية على مآل حياتنا وعلاقاتنا التي تحولت مع الزمن إلى ما يشبه واقع المدير مع موظفيه في آلية عمل لا تعبأ بأي جانب إنساني.
في قصة (خريف) إيغال واضح في رحلة العمر لدى شيخ مسن، فهي وإن كانت رسالة عابرة تقتضب عقود العمر إلا أنها لمحة مؤثرة حينما يصبح (العم) الكبير طاعنا ولم يعد متوائما مع من حوله، ليسجل للتاريخ شهادته على العصر الذي لم يعد هو عصره، فقد أشار (الراوي/البطل) في حديثه الداخلي مع ذاته إلى عدة شواهد تمثلت في قطيعة واضحة بين الرجل وما حوله من مجتمع لم يعد عابئا بتلك الشواهد القديمة (جمال عبدالناصر) (سميرة توفيق)، (هيام يونس)، و(طه حسين)، تلك التي لم يعد لها أي وجود في عالم اليوم، حيث يذهب (العم) إلى أبعد نقطة في اليأس من هول هذا الجفاء.
يبرع القاص عبدالواحد اليحيائي في اقتفاء تفاصيل الهموم اليومية، إذ يستعين دائما بقضايا البسطاء التي تعد شاهدا قويا على استفحال ظاهرة الحياة الجديدة، تلك التي لا تلتفت إلى أي جانب إنساني نبيل.
فالقضايا التي يتناولها اليحيائي تذهب دائما نحو الحياة بأدق تفاصيلها حاملة معها شعورا حميميا قويا يثير في الذات شجنها المؤثر على نحو قصة (دمية) فهو الذي يستطرد في رسم فاجعة (أم) و(أب) لحظة فراق ابنتهما البكر، فالراوي لم يشأ أن يورد القصة مجردة في تصويرها المادي للحزن فقط، إنما تجاوز فيه إلى (الذكرى) التي باتت هي الأقسى حينما يعيد والديها شريط الحياة، أو يفتشا في بقايا ماض، ليعثرا على دمية جلباها لصغيرتهما الراحلة، فكانت إشارة مؤثرة إلى أن الأحزان لا تغيب أبا حتى وإن سعينا إلى مداراتها.
كما أن القصص بحيويتها وجمالها تناوئ عنوان المجموعة (روتين) إذ لم يعد هناك ما يستدعي الروتين في قصص غاية في العذوبة والإدهاش، ولو أن عنوان المجموعة حكم بذلك الاجتماع البيروقراطي لكان العنوان البديل أكثر إدهاشا إذا ما استقصينا حالة القص التي تواءم بين أطياف عديدة للحياة البسيطة المليئة بالصور القصصية على نحو ما أورده اليحيائي في ثنايا سرده.
نبرة الحزن اللاعج تسود القصص، وترسخ للمفهوم العام للسرد الذي اختطه اليحيائي لأعماله دائما ولاسيما هذه المجموعة، حيث تفر عصافير الحزن من شجرة الحكاية الأليمة، تلك التي لا يجد القاص غضاضة من تلمس جوانبها الفريدة، فهو لا يريد أن يأتي الحزن إلا بكامل وقاره، وأناقته حتى وإن كان بسيطا متناهي الهدوء.
فالقصص في مجموعة (روتين) شهادات متفرقة، تحيل الزمن في كل قصة إلى شأن آخر يشغل القاص بوصفه الراوي الرئيس لمثل هذه الأحداث التي تعتلج فيها المجموعة، فالشهادات غالبا ما تأخذ شكل الممكن الذي يجب أن تكون عليه الحياة، بمعنى ألا وجود لأي حياة خيالية محلقة في أمداء وفضاءات تعب الناس وملوا من التحديث فيها، فليس أنجع من الواقع ومن قصصه إن أردت للذائقة أن تحقق ثنائيتها المألوفة (المتعة/الفائدة) وهذا ما عمد إليه القاص عبدالواحد اليحيائي في مجموعته (روتين) والتي تعد بحق نموذجا قصصيا مناسبا يستحق التأمل والمتابعة.
***
لإبداء الرأي حول هذه المطالعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5217»ثم أرسلها إلى الكود 82244