لا يمكن اعتبار السيرة الذاتية الروائية للكاتب المغربي محمد شكري مقتصرة على جزءيها الأول (الخبز الحافي) والجزء الثاني (الشطار)، دون إضافة جزء ثالث يكمل سيرته الشيقة - الشائقة وقد عنون ذلك الجزء باسم (وجوه) ليعبر عن اكتمال الثنائية - الثلاثية.
يفاجئ محمد شكري القارئ بذلك الكم الهائل من السرد المباشر والتفاصيل المتتالية التي تربط القارئ بمحرك بحثٍ لا يتركه لحظة دون انتظار الحدث التالي، وما يفاجئه أكثر هو طريقة تعلم شكري للقراءة والكتابة، فلا يمكن التصور أن كاتباً بحجمه قد تعلم الحروف في السجن، وقد بلغ من العمر سن المراهقة لتبدأ معاناته في محاولة الانضمام إلى صفوف الدراسة، وهذا ما يعكس صلابة في الإرادة وعزم لتحقيق هدف استهوى صاحبه.
تتميز بداية الثلاثية في جزئها الأول (الخبز الحافي) بلغة جديدة تخرج عن قوالب اللغة الروائية فلا تجد مقدمة واضحة ولا خاتمة مبينة، أما متن النص فهو عبارة عن مقاطع - نصوص متلاحقة ذات إيقاع سريع وجمل قصيرة متلاحقة قد يربط بينها حدث معين أو قد تقحم إحدى الجمل بين نصين لتشكل فاصلاً غير ذي أهمية لكنه مطلوب لتوضيح معلومة مفقودة يحس القارئ بحاجته إليها دون البحث عنها، وقد يعود مرد هذا التشويش اللامتعمد إلى أن الكاتب قد اختلى بنفسه عدة أيام في مقبرة مهجورة ليكتب ما قضى من عمره في عجالة مكثفة متتالية ذات سرد دقيق، لا يخلو من إيحاءات جنسية تصف أدق التفاصيل وأكثرها شفافية دون المساس بذائقة القارئ وعفويته بعكس ما يروج له من أن كتابات محمد شكري تندرج ضمن الأدب الايروسي، كما فعلت رواية (برهان العسل) مثلاً.
لكن التطور الطبيعي يبدو في الجزء الثاني (الشطار) حيث تبلورت ونمت لغة الكاتب كما هي النبتة البرية التي تتشذب مع الزمن لتتحول جمله من القصر إلى الاعتدال، وإيقاعاته من الاضطراب والسرعة إلى التناسق والهارموني الذي يجعل القارئ يتمعن في معاني الجمل ليبحث عما وراء المعنى المباشر، وليدرك فلسفة تتبدى في نصوص مباشرة وصريحة تصف ما أحسه شكري وما عاشه في زمان ليس ببعيد عملياً لكنه يبدو خارج عالمنا نظرياً.
إن السيرة الروائية لمحمد شكري تبدأ بحدث مهم رسم منحى تفكيره وعلاقته بعائلته التي انفصل عنها مبكراً هارباً من جحيم العائلة، ويكاد أن يكون مقتل أخيه على يد أبيه، لحظة تمرده على الذات والعائلة والمجتمع السفلي الذي خبره وعاشه بكل تفاصيله القاسية، لتنتج هذا الكم من الأحداث - الرواية التي بدأ بصياغتها بعبارات مملوءة باللغة الدارجة والمفردات الإسبانية الدخيلة.
تصف السيرة الروائية لشكري مراحل مهمة من عمره وعمر المغرب المستعمر والمستقل حديثاً فيما بعد، حيث السواد الأعظم من الشعب يعاني الفقر والجوع والحرمان حتى من كسرة الخبز، وهذا ما فعلته مجاعة الأربعينيات لتنتج خبزاً حافياً وقاسياً جاهد الجميع في سبيل توفيره.
ولابد من التوقف عند الأماكن التي اختارها شكري مسرحاً لأحداث سيرته الروائية، فمدنه تجاور البحر وحاراته ضيقة مظلمة تضم المشردين واللصوص وبائعات الهوى، أما خشبة المسرح فهي إما حانات وبارات تلك المدن أو فنادقها الرخيصة التي تسكنها شرائح من العالم السفلي المسكون ببائعات الهوى والشطار ولاعبي القمار والشاذين والمتسولين.
إن المتعة تكمن في البحث عن الجديد واللامألوف، وقد يصدمنا محمد شكري بشفافيته وصراحته المفرطة التي تخجل أياً منا، حتى لو ناقشها مع ذاته، لكنها تجربة تستحق القراءة.