سأتجاوز هنا المثاليات -وهذا قد يغضب البعض- وأتحدث وفق معطيات الواقع، الذي يقول أننا العرب اليوم أمة ضعيفة ومهزومة ومتخلفة حضاريا وجزء منّا يصنفه النظام العالمي ضمن فئة (الشر)، فهل هذه الصورة الموجزة لخارطة الواقع العربي تؤهله لحوار متكافئ ومتوازن مع الآخر؟
لا أريد أن أصعب الموضوع ولا أعقده، بل كل قصدي تأطير الصورة لكي نحدد الرؤية ونمنطق الاستقراء، ففي هكذا أمور يُحمّد السقف والإطار والقاعدة، بمعنى أن ثمة مآزق تحيط بحوارنا مع الآخر ويجب إدراكنا لها حتى لا نأمل نتائج أكثر مما يلزمه الواقع ومما يتفق معه أيضا ومع اعتبارات الموجود، فنصطدم بالفشل، أو هكذا أظن.
أعتقد أن أول مأزق من مآزق حوارنا مع الآخر، هو افتقادنا لثقافة الحوار مع بعضنا، فكيف ننجح في حوارنا مع الآخر وقد فشلنا -أو أوشكنا- في حوارنا مع بعضنا البعض، فالمحليات العربية تعاني من ضيق الحوار في ظل الاتساع المستمر لقمع صوت المواطن والمُعارِض واضطهاد رأيهما، وإحلال الاعتقالات محل طاولات الحوار، فأعتقد أن المنطق يقول أن علينا أن نتفاهم أولا مع اختلافات وخلافات المحليات العربية داخل المجتمع الواحد، قبل أن نتفاهم مع خلافاتنا واختلافاتنا مع الآخر، والمنطق يقول أيضا إن علينا أولا أن نُوجد فكرة الحوار بين العرب أنفسهم لإعادة صياغة الوحدة العربية والإسلامية التي بدأت تتفكك عُراها في ضجيج اتهام العرب بعضهم لبعض بالعمالة والخيانة، فعلينا أيها السادة أولا أن نتعلّم ترتيب بيتنا المبعثر قبل تأثيث بيت الآخر.
والمأزق الثاني هو محتوى الحوار، فالعربي المسلم يجلس على طاولة الحوار بهويته الدينية وماضٍ لا يتساوى في الأهمية مع برهان الحاضر رغم قيمته، وبعض وجدانيات عفا عليها الدهر، وحاضر أسقطه من حساباته لا يريد أن يتحمل مسئولية مآسيه وآلامه، ومستقبل لم يُجهّز له ليتفادى عيوب الحاضر ويخطط لمنجزاته، في حين أن الآخر يجلس أمامه بهويته العلمانيّة أي الاعتماد على الشواهد الحضارية والثقافية والعلمية، منجزاته أو البراهين على تطوره الصحيح، باعتبار أن النواتج دليل اعتقاد المجتمع وممارساته، وهو ما يجعل العربي المسلم وفق تلك القاعدة في قفص الاتهام دوما، وأن الآخر وفق تلك القاعدة الأفضل.
وبصرف النظر عما يُخفى بين سطور تلك العلمانية من تطرف ديني غربي، يظل محتوى الحوارين بهذا الشكل غير متكافئ على مستوى النوع، لأن نتيجة المفاضلة وفق منطق النشوء والارتقاء ستكون في صالح الآخر، والنقطة المهمة أيضا أن غياب التوازي المادي بين الطرفين سيجعل طرف الحوار الأضعف لا يتحرك من محل الدفاع عن النفس، فكل الحوارات التي خاضها العرب منذ أحداث الحادي عشر من أيلول كانت حوارات دفاعية، دفاع عن النفس العربية المسلمة، بأنها ليست إرهابية، وليس الإسلام دين إرهاب وظلم وجهل وقمع، وإن الإسلام يحترم الأديان الأخرى وحافظ على كرامة غير المسلمين عندما عاشوا في ظل الدولة الإسلامية القديمة، وحكايات وقصص من التاريخ الإسلامي تُدعم تلك المثاليات، وكل ذلك كلام جميل، لكنه يظل وجدانيا بلاغيا ليس إلا، ولا يصدقه الغرب لأن الشواهد تختلف عن المثاليات التي يروّجها أرباب الحوار العربي والإسلامي، فدول العالم العربي والإسلامي حتى اليوم تضم أعلى نسب الفقر والأمية والإرهاب واضطهاد المرأة والعنف الأسري، والإدمان والبطالة، وغياب الحريات وأكثر دول العالم تغيب عنها الديمقراطية السياسية، وإن وجدت فهي ديمقراطية صورية، لا تحترم حقوق المواطن المختلفة، وجراح وقف العرب عاجزين عن علاجها بداية من فلسطين مرورا بالعراق والصومال والسودان هكذا واقع هو المسيطر على ذهنية الحوار الغربي القادم إلى طاولة الحوار، فكيف سيستطيع أرباب الحوار العربي والإسلامي أن يربطوا بين مثاليات الدين وعيوب وجراح الواقع العربي والإسلامي الذي ينتمي إلى ذلك الدين؟ كيف سيثبتون صحة القاعدة بنماذج تخالفها؟.
وذلكم سؤال يدفعنا إلى النقطة أخرى حول القيمة والهدف والناتج، ما أهمية وقيمة حوار الأديان.. وماذا سيستفيد منه العرب والمسلمون؟ إنه يذكرني بمفاوضات السلام مجرد مضيعة للوقت، فلن يغير الغرب رؤيته حول الإسلام والمسلمين إلا إذا تغير واقعهم، والاستدلال بالواقع هو أضمن نجاح لحوار أي واقع، أو أظن ذلك.
لن يغير الحوار مع الغرب رؤيتهم عنّا، فهو ليس الطريق الصحيح، لأن طريقة إقناع الغربي تختلف عن طريق إقناع العربي، فنحن العرب أمة صاحبة لسان، المنطق وسيلة إيماننا، في حين أن الغربي صاحب تفكير مادي يؤمن بما يراه، فالمرئي الراهن هو برهان الإيمان. فقيمة الأشياء والأفكار لديه هي حسابات ومنجزات، ونحن العرب لا نفهم هذه اللغة، والمنجزات ليست في صالح دين العرب، فالرهان خاسر منذ البدء.
والمأزق الآخر، نوع الحوار، ما نوع حوارنا مع الأديان؟ هل نقصد بالأديان الغرب، أما المسيحية واليهودية؟ إذا كان المقصد الغرب، فالغرب دول علمانية، فهل حوارنا سيكون بين الإسلام والعلمانية؟ وتلك قسمة ضيزى.
ولو كان الحوار بين الإسلام والمسيحية واليهودية، فأي مسيحية سنتحاور معها مسيحية بريطانيا أم فرنسا أو أمريكا، وأي يهودية سنتحاور معها اليهودية الصهيونية التي تستعمر فلسطين أم اليهودية المسيحية التي تسيطر على العراق؟ خيارات متعددة فأيهما سنختار على طاولة الحوار، إن كان من حقنا الخيار، هذا إذا أغفلنا ما يؤمن به المسلم من اعتقاد بأن الإسلام هو الدين الصحيح والمعترف به إلهيا حتى قيام الساعة، وما عداه من الأديان الأخرى المسيحية واليهودية باطلة وفق الصورة التي عليها الآن ومحرّفة ولا يجوز الإيمان بها، والدخول فيها بعد الإسلام ردة توجب القتل، فكيف نتحاور مع أديان ندرك أنها محرفة وأصحابها من أصحاب النار ولا يحق للمسلم الدخول فيها وإلا كُفّر وقُتل، كيف نوافق بين النص الديني الذي أشار إلى فشل الحوار بين الإسلام و الأديان، لأن الهدف دائما هو هدف استعماري وليس شراكة (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). لقد أثبت التاريخ أن الأديان عبر العصور كانت تتصارع وتتصادم، ولم نقرأ تجربة تاريخية واحدة ناجحة في مجال حوار الأديان إلا في ضوء الدولة الإسلامية القديمة، وكان الهدف من ذلك الحوار الإقناع بالدين الإسلامي والدعوة إليه، كما حدث مع النجاشي ولم يكن من أجل التوافق الحضاري، فهل سيتخلى أرباب الحوار العربي والإسلامي عن مبدأهم الدعويّ وهم على طاولة الحوار؟.
وما بين حوار الحضارات وحوار الأديان شبح فكرة البقاء للأقوى، فالكل على طاولة الحوار يريد أن يثبت أنه الأفضل وغيره الأسوأ، وأنه الأقوى وغيره الأضعف، أنه هو الخيّر وغيره الشرير، لأن بهذه الثنائيات تكتمل صورة النظام العالمي، وبذلك يصبح الحوار استعماراً لعقيدة الأضعف حضاريا.
وفي المقابل هل سيتنازل المنطق الإسلامي بأن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، وبأن دينهم أفضل الأديان وهو يُلغي ما قبله من الأديان؟ وفي المقابل هل سترضى الأديان الأخرى بهذه اللغة الدينية الفوقية للمنطق الإسلامي.
هذا عدا كفرهم المسبق بالإسلام لأنه حسب الواقع مجرد دين جهل وتخلف واضطهاد؟
قلت منذ البدء لا أريد أن أعقد الأمر، لكني لا أؤمن بحوار أديان ولا حضارات في غياب عدم التكافؤ بين قوى الأديان، أما في حضور توازن القوى فالأمر سيصبح صداماً بين الأديان والحضارات.. أو هكذا أعتقد.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244