منذُ الفجر العاشر من خيبة نوفمبر، منذ الإصبع الملتوي على إصبع وإصبعين!، منذ الخطيئة والريّم الرديئة وصنعة النجدين، منذ البراري التي كذبت على ديسمبر، واسمي الذي لا يحتاج إلى صوتٍ يتعرف عليه سوى الغراب الأبيض وحبيبي قاتل الدولفين، منذ المرايا كلها.. تلك التي ما عكست تقاسيمي الملبدة بالملح قدر ما عكست تقاسيم التربص والشجر..
منذها ومنذ الزمان الذي استغرقته كل هذه الأفعال والافتعالات.. كنت أخاطب الزيتون وأسأله: أين غصنك؟
فيتعجب: وأين الحمامة؟!
يوماً ما كنت أطارد الخذلان بخطابٍ طويل جداً مفاده الآتي:
(إلى كل العابرين على رصيف الستين، وأولئك الذين لم يعبروا ذات رصيف السنين.. هل تحبون إشارات المرور)؟!
فشلاً ما، كنت أحقن الدوافع التي أدت إليه بترياق الأخيلة المسمومة، فأصابتني بأعظم إنجاز على وجه البشرية: لم أنجز شيئاً.
ثم ذات تمرد، تكورت كل الأمنيات التي طاردت الرزانة من أجلها وصارت مثل كرة ثلج صغيرة في كفي فرميتها على أقرب حائط وحققت الهدف إذ إنها.. ارتدت إليّ!
بعد كل الوقت المزدحم في تلك الأيام بكل السابق أعلاه وأسفاه!، لم أعد أشفق على زوج المجنونة.. ولا على حبة الزيتون العاري من غصنه، ولا على تشوهات نوفمبر، ولا على الخديعة التي وقعت فيها أمام كل المرايا، ولا على إبراهيم الدائر بين البيوت يبحث عن البنت (الحلوة) التي تلبس ألواناً كثيرة، آخر ما يقال عنها: فساتين.
كنت قبل بلوغ اليوم الغائب من عمُري.. أحب أن أخدع الغابات بالبشاشة في وجهها حين أراها وأشعر بها تسألني ما رأيك في فأجيب: كثيفة ما شاء الله!!
واليوم ما عادَت موائد أخلاقي تسع نفاقاتٍ جديدة، ولا حتى عادت تسعُ المزاحات التي ما إن تصيب هدفها إلا وتسمع السمج الذي فعلها يردد تارة أخرى: واحد.. اثنين.. ثلااااثة.!
أدعو الهواء إلى أمسيتي مع ظل التجول، أردد التسليمتين كثيراً وأنا أقود الهواء إلى حتفه دون أداة مواصلات، أنا أمشي واقفة، وهو لا يملك قدمين.
أنظر إلى زاويتي المستأجرة في نفس الحتف، وأكتشف متأخرة أن رواقي حمل الرقم الثالث ما بعد الصفر، أشفق على هذا الصفر.. وأسدي ابتسامة لا اكتراث على هوية ركني.
ومنذ الليل العاشر من ديسمبر. منذ الجسد الكامن في برية نوفمبر، منذ! لا تضايقون الترف لا لا لا تضايقونه ومنذ نامت عيونك بالفجر البعيد!، منذ الكثير من الأغاني والشحيح من الأمنيات، منذ الحمام الذي أخطأ فحل في عش العصافير وهتكه!، منذ تجمهر النسيان والتطلع إلى الفرح عله يركض من نفسه إلى نفسه ثم من نفسه إلي، منذ السعادات الفاعلة، والأوجاع المائلة، والمدينة المرآة، منذ أناي التي كبرت وصارت ترتدي قفطان الصبر بدلاً من قميص التذمر، منذ كل الجهات التي ترك فيها الأسود مقعده، ورفع صوانه وتوقف عن الترتيل.. كنت أسابق النخل كي أتسامى عن الأفخاخ.
وأترك مفتاحي في صيحة النضج، أقول لأبعادي تضائلي في النسيان.. فترفض وفي فمها تفاحة شهية لونها: تطنيش!
يسرقني الحذر كثيراً، يضجرني الموت يومياً في السادسة عشر تمرداً، أكرر تسريب الأرق من نومي، ولا أنام.. لا أنام.
ومنذ عشاب الذي أماتته الكحول في طوق الياسمين، ومنذ الإجابة على سؤال مايكل كاريذرس:
- لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟!، ومنذ جوابي الأبله حد العبقرية عليه:
- لأنه حيوان فقد عقله مذ ولد!، ومنذ أوراقي الغائرة في أثر حافة القلم على جسمها.. كنت أعادي كل فرص الاطراد المرتب.
ويجيء آخر يوم من عمر الفرصة، فانزلق إلى بحيرة الميلاد، لا ملوحة شعرت بها ولا سكر أعياد.. وأطلب يوماً إضافياً بلا فرصة، وحين يجيء اليوم: أتسمى ب(الغريبة حقاً)!