القاص هاني الحجي صوت إبداعي واعد في مشروعنا الإبداعي السردي، بل هو من النضج ما يؤهله لأن يقدم تجربته الأدبية بعيداً عن تجاذبات البدايات التي قد تعتورها بعض إرهاصات التجريب، لنراه وقد أبدع في عمله القصصي الجديد (ليلة خروج المنتظر) فهو العمل الأول للحجي بعد دأب لا بأس فيه في مضمار العمل الصحفي الثقافي الذي يشاطر القصة حضورها في تجربته على مدى عقد من الزمن توجَّه بهذه الاضمامة من القصص القصيرة التي سنتوقف عندها في حالة تأمل لا نقد، وتذوق لا تأويل لبعض منعرجاتها.. فكثيراً ما ننوِّه بأن (مطالعات) ليست رؤية نقدية خالصة إنما هي محاولات للتعريض بالنص استمالةً للقارئ، واستدراجاً للذائقة أن تقف عند هذا العمل الإبداعي أو ذاك.
فمجموعة هاني الحجي القصصية (ليلة خروج المنتظر) تصدر على هيئة إيماءة فكرية واعية، تمتزج بمنجز السرد المتخيل لفضاء حكايات متباينة تخلق تضاداً يرسم الكثير من المفارقات على نحو القصة الأولى (مجنون في الدائرة) لنرى القاص وقد عني في هذا السياق المتباين بين العقل والجنون، والطبيب والمريض، والليل والنهار، بل نراه وقد كرس هذا المفهوم في القصة الثانية حينما قدم أحداث القصة الثانية في المجموعة (نزوة بحر تناجي شهوة الصحراء) فهو في هذا النص يرسم تفاصيل المفارقة بين البحر بدفئه وعذوبة أيامه، وبين الصحراء التي توقظ مارد الحب الدفين في زمن مجدب يصارع فيه (البطل - الراوي) من أجل إقامة جدلية عاطفية ترقى إلى مستوى (الحب) الذي يوده الرجل عابقاً لحكاية شرقية رملية مكتظاً بالرجولة، وتريده المرأة يضوع رقة وإشراقاً كأنفاس صباح ربيعي في دنيا الصحراء المترامية.
هاني الحجي بحق يصطاد القارئ منذ أول قصتين في المجموعة، لنراه وقد استدرجنا وبذكاء نحو حكاية كما الجسر نحو فردوس مفقود تجتذب مريديه بذهول، وانشراه لا مثيل له على نحو القصة الثالثة في المجموعة التي رسمها بعنوان (شارع المعارض) ليحاول القاص وبدربة سردية متقنة أن يصوغ للقارئ أهم ما يبحث عنه من طرفة القول، وعتق الحكاية الشيقة عن زمان جميل لم يعد ممكناً له أن يعود ببعض تلك البراءات.
في قصص الحجي حضور واضح لسلطة المكان منذ القصة الأولى حتى القصة الأخيرة، فهو لا يكل من رسم تفاصيل المكان على هيئة تضاريس، ومدن، وأماكن، وشوارع، وطرقات ضيقة، ودروب عابرة إلى ذاكرة الإنسان الذي يشهد التحولات دون أن يعبأ بها.. وحده المكان هو الحاضر القوي في القصص، وحل الزمان في الأحداث فإن زمناً أعم، وفضاء يُولِّد غبار التاريخ حقبة بعد أخرى.
مجمليات المكان في قصص المجموعة ذات طابع عام، قد لا يحدها فضاء معين، إنما هي أماكن رحبة تأتي على هيئة جهات وأنحاء متباعدة على نحو (العاصمة) و(جدة) وطريق خريص، وسكة القطار، وشارع المعارض وجهات الوطن، أو كما تقول الحكاية في قصة (ليلة خروج المنتظر) ذا الأفراس الثلاثة ذلك الذي قيل أنه سيطير في الأفق أو أنه سيقطع الأرض خبباً.. فالقصص وإن تباعدت أحداثها تظل ثمرة من ثمار توسيع القاص الحجي خصوصية المكان الذي يريده أن يتسع لكل شيء كالأحلام، والحكايات وقصص الحب، والحرب والممكن والمستحيل وما إلى تلك المفارقات التي احتضنها في ديباجة سرده الذي يكل أو يمل من محاولات استعادة اشتعالات الذات بقصص حب غارب. كما أن في القصص لغة تصويرية تحلق في الحكاية نحو فضاءات أكثر رحابة على نحو موت (محمد) في قصة (حزن الأبواب).. تلك التي تعيد ترتيب الحكاية الطويلة عن جدل الحياة والموت في رحلة العناء اليومي.
ترتكز الأحداث في القصص على محور واحد هو المفارقة الممكنة في الكثير من الرؤى التي استدرجها الكاتب الحجي الى النص رغبة منه في تسجيل موقف جديد يخرج الكثير من الحكايات عن نمطها المألوف، فهو ينفض الغبار عن الحكاية الساملة للجنون الذي يخرج عادة مخزون الذات التي تنوء في أثقال من الصور المؤذية، والذكريات الأليمة، والمواقف المتشابكة عن مآل الإنسان بعد تعاظم أحزانه وآلامه على نحو قصة (مناجاة الأمومة) وما تلاها من قصص لا تخرج عن هذا الإطار الاستشرافي لهموم الإنسان البسيط الذي يحتاج دائماً إلى من يستميله نحو البوح لعله يتجاوز وعثاء حياة لا تربي سوى مزيد من الأحزان.
فالقاص الحجي برع حقيقة في اقتناص هذه الصور التي أحالها أيقونات سرد فني تشع فيها نظارة اللغة، وألق الأحداث، وضياء الحقيقة التي تغمر كل حيِّز معتم في حياة حكايتنا العربية الموغلة في حزنها، وغرابتها.. فهي مادة غنية لمن أراد أن يتجاذب أطراف سيرتها مع من حوله.