الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد، علمٌ شامخ في الفكر والمنهج والعلم والتدريس والبحث والتأليف، وهو أيضاً علم شامخ في الإدارة وإنشاء المؤسسات وإنجاز المهمات.
وقد اهتم الناس بالحديث عن علمه وكتبه وآثاره القيمة، وحاولوا الكشف عمّا تتصف به من جدة وأصالة، وما تتضمنه من تصحيح لأحكامٍ، وإضافة لجديد. ومن أجل ذلك رأيت أن لا أعيد القول فيها تجنباً للتكرار، وطلباً للجديد، فإن الناس كادوا يوفون هذا الجانب من عمله حقه من العناية، ويوفرون عليه حظه من الدراسة.
واجتهدت أن أعرض في هذه الكلمة بعض ذكرياتي معه، لأنها توضح كثيراً من الخصائص النفسية والخلفية والتربوية الإنسانية النبيلة التي يتحلى بها، والتي ضاعفت التقدير له والاحتفاء له، ومكنت لمنزلته العلمية، وزادته رفعة على رفعة.
وكان من حسن حظي أن أتاحت لي الأقدار أن أعرف هذا العالم الجليل الإنسان عن قربٍ، وأن أعاشره معاشرة التلميذ لأستاذه، وأخالطه مخالطة الابن لأبيه، وأيقنتُ منذ اتصلت به وكلمته مرة في وقت متأخر غير مناسب من الليل يوم 9 - 5 - 1964م أنه رجل حكيم حليم، صبور كريم، دمث رفيق، ذلك أنني اتصلت به في منتصف الليل تماماً أخبره أنني وصلت إلى عمان من البحرين، وأنني أود أن ألقاه، وكنت صغير السن، حديث التخرج، قليل التجربة، فرحبّ بي، وتمنى لي التوفيق، وأذن لي أن ألقاه الساعة العاشرة من صباح الغد بمكتبه في الجامعة الأردنية، على ضيق أوقاته، وكثرة مسؤولياته وارتباطاته. فلما دخلتُ مكتبه لقيني بمحبةٍ وبشاشة، وأسبغ عليَّ من لطفه وعطفه ما أذكره ولا أنساه أبداً، وما أردده ولا أمل الحديث عنه لطلبتي وزملائي ما اقتضت الضرورة ذلك، فهو مثل نادر في بساطة النفس، وسماحة الخلق، ورعاية الكبير للصغير، واستماع المسؤول لصاحب الحاجة.
وقد اتصلت به ولقيته لكي أقدم إليه أوراقي الرسمية للعمل معيناً بقسم اللغة العربية وآدابها إن كان ذلك ممكناً، وكان لمثل شهادي مراجعاً، وعلى نحو ما أحسن الردّ عليّ والاستقبال لي فإنه صدق النصح لي والعناية بي، إذ بعثني إلى رئيس القسم، وأوصاه بي خيراً، ثم قابلني أعضاء هيئة التدريس بالقسم مراراً وتكراراً، وسألوني عن قضايا الأدب والنقد والبلاغة والنحو واللغة، وعن المشهورين من علمائها المتقدمين، ومؤلفاتهم المتنوعة، وقيمتها العلمية، وعن المذكورين من علمائها المحدثين، ودراساتهم المختلفة، وما فيها من جديد في الفكر والرأي والحكم، ودققوا في ذلك كله أشد التدقيق. فلما وثقوا بمعرفتي على قدر سني واستطاعتي، واطمأنوا إلى أنني من يصلح أن يواصل الدراسة الجامعية العالية، وأن يصبح عضو هيئة تدريس بالقسم في المستقبل، وتعمّق هو في اختياري مثلهم وأكثر منهم، ولم يخامره شك في أن لدي الاستعداد للبحث والتدريس، قرر القسم تعييني معيداً فيه.
وكشفت لي هذه التجربة عن صفاء نفسه، وسمو خلقه، وصحة منهجه، وسلامة معاييره، ونبل غايته، ورقة معاملته، وشدة حرصه على الشباب، وأخذه بأيديهم، وإتاحته الفرص لهم، وفتحه أبواب الأمل أمامهم، ومساواته بينهم، دون محاباةٍ أو شفاعةٍ لأحد منهم.
وبعد أن عُينت معيداً انفتح لي أن ألقى العالم الجليل الأستاذ محمود شاكر طيب الله ثراه، حتى اتصل بنمطٍ جديد فريد ومجتهد جاد وقوي حازم من العلماء، وانتفع بمنهجه وعلمه، وأشار عليّ أن آتي إلى منزله بمصر الجديدة بالقاهرة، حتى أصحبه إلى منزل الأستاذ محمود الموعد الذي ضربه لي، فحملني معه إلى منزل الأستاذ محمود شاكر، وأوصاني أن أعرّفه بنفسي، لأنه اضطر إلى أن يتركني لبعض الوقت، وذكر لي أنه سيعود بعد قليلٍ. فصعدت إلى منزل الأستاذ محمود شاكر، فحييته وعرّفته بنفسي، ولم أكد أجلس وأحتسي كوب الشاي الذي قدّمه إلى حتى أخذ يسألني عن رأيي في كتاب (في الأدب الجاهلي) لطه حسين. فأجبته بما أعرف دون خطلٍ أو وجلٍ. وبينما أنا أجيبه إذ قُرع الباب، ودخل الدكتور ناصر الدين الأسد وجلس، فقال له: اسمع ما يقول فلان، ونسبني إلى الجهل، وسفه قولي، وعضني بلسانه، فتماسكت، وسألني الدكتور ناصر عما قلت، فأعدته عليه، فشرح له ما قلت، ووضّح له ما أردت، فطابت نفسي، وخلّصني بلباقته من موقفٍ حرجٍ. وربطت بيني وبين الأستاذ محمود شاكر بعد ذلك علاقة وثيقة، وانعقدت بيننا صداقة عميقة.
وبالمثل فإن هذه التجربة صوّرت لي بجلاء محبة الدكتور ناصر الدين الأسد الخالصة لي ولغيري من المعيدين بالجامعة الأردنية في أيامها الأولى، ورغبته الصادقة في تنشئتهم تنشئةً صالحةً، وبناء شخصياتهم بناءً علمياً متيناً، حتى يكونوا عُدة الجامعة في المستقبل، مما تحس معه تواضعه في نفسه، وتضحيته بوقته، ورعايته لشباب وطنه.
وسعى الدكتور ناصر الدين الأسد سعياً حثيثاً أن يعد هذا الجيل من المعيدين للتدريس، ويدربه على البحث، ويشعره بالثقة، ويبعث فيه القوة، ويشجعه على حمل الأمانة وأداء الرسالة الجامعية، فكان يصطحبني وزميلاً معيداً آخر إلى محاضراته في (تاريخ الأدب الجاهلي) و(تاريخ الأدب في صدر الإسلام) فتعلمت منه ما لم أكن أعلم، واكتسبت منه معرفة في طبيعة التدريس بالجامعة، وطريقة المعاملة للطلبة. وبدأت شخصيتي تقوى وتصقل، وأخذت تتشرب المنهج العلمي. وكنت أحست وهو يبذل لنا من وقته وخبرته، ويحيطنا بعنايته ومحبته كأنما كنا ننزل منه بمنزلة أبنائه، بل كأننا كنا قطعة من نفسه.
ولم تلبث أعماله أن تكاثرت، وأعباؤه أن تضاعفت، فكلّفني أن أقوم مقامه في تدريس (تاريخ الأدب الجاهلي)، وبثّ فيّ من روحه وتشجيعه ما هوّن عليّ الأمر، ويسر لي العمل، فحرصت على أن لا أخلف ظنه ولا أخيب أمله، واجتهدت أن أتغلب على ضعفي وأن أمكن لنفسي عنده، ووفقني الله لما أردت وقصدت، وأذكر له في هذا المقام أنه منحني الحرية الكاملة في التدريس، ولم يتدخل في شيء مما أعرضه على الطلبة، فكان ذلك يزيد من إحساسي بثقل الأمانة وعظم المسؤولية، ويشعرني بالخوف والقلق، وكان يدفعني إلى مضاعفة جهدي، وتقديم خير ما عندي. وبلغ من إيمانه بحرية عضو هيئة التدريس واستقلاله في الجامعة أنه أبى أن ينظر في أسئلة الامتحان النهائي التي وضعتها لمادة (تاريخ الأدب الجاهلي) حين حملتها إليه، ومع أنني كنت معيداً ناشئاً متدرباً، فألححت عليه، وأخبرته أنني أخشى الخطأ والضلالة، وابتغي النصيحة والموافقة، وأتوخى الصحة والسلامة، ولم أزل به حتى نظر فيها وأجازها دون زيادة عليها، أو حذف منها، أو تغيير فيها. وحين عرضت عليه نتيجة الامتحان، وكانت نسبة النجاح فيها لا تزيد على ربع الطلبة، قال لي: ألا ترى أن هذه النتيجة قاسية غير محتملة، وإذا كنت تتمسك بها فإنني لا أكرهك على تعديلها، ولكنني أحب أن تُعيد النظر في الأوراق التي تزيد علامتها على 45% إن قبلت ذلك، فلعلك تجد في بعضها ما يستحق النجاح، فاستجبت لرغبته، وراجعت جميع الأوراق مراجعة دقيقة، مع شيء يسير من التسامح، فأصبحت نسبة النجاح نصف عدد الطلبة، فرضي عنها وشكرني عليها!
وعلى هذا النحو استمر الدكتور ناصر الدين الأسد يضفي عليّ من ثقته ومحبته، ويملأ نفسي قوةً ومتانةً، ويشعرني بالعزة والكرامة، ويغرس فيّ روح الحرية والاستقلال، لإيمانه الشديد بضرورة تنشئة الشباب المعيدين تنشئةً حسنة، وتربيتهم تربية قويمة.
ولم ينقطع الدكتور ناصر الدين الأسد عن التدريس كل الانقطاع، فقد درّس مادة (كتاب خاص) لسنتين متواليتين، قرأ الطلبة أولاهما مقدمة كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الحجمي، وقرأوا في آخراهما الفصول الأولى من كتاب (الكامل في اللغة والأدب) لأبي العباس المبرد، ودرّس لطلبة السنة الرابعة مادة (موضوع خاص)، وتناول فيها قضية من قضايا الأدب الجاهلي. وحرص على أن أحضر معه محاضراته في هذه المواد الثلاث، وأن ألازمه ولا أفارقه. وكنت أعجب من دقة منهجه، وشدة رويّته وأناته في الشرح والتحليل، وسعة معارفه، وكثرة حفظه، ورايته للأخبار والأقوال التي يستشهد بها بحروفها وألفاظها، كما كنت أعجب من نفاذ بصيرته، وتقليبه للنصوص على وجوهها المختلفة، من أجل أن يقف على معانيها المحتملة، ويرجح بعضها على بعضٍ، ويستنبط المعنى الصحيح، ويخلص إلى الرأي السديد، وكان يروعني أيضا حسن معاملته للطلبة، وتشجيعه لهم على المشاركة، واستماعه لآرائهم، وقبوله لقويها، وإشادته بصاحبه، وتوضيحه لضعيفها، ورده له بالحجة البينة.
وأفدت من محاضراته في هذه المواد الثلاث فوائد جمّة في المنهج والتبويب والعرض وقراءة النص والتحليل والاستنتاج والحكم، وفي معرفة مصادر الدراسة الأدبية ومراجعها المختلفة. وأعانني ذلك في إعداد رسالة الماجستير ورسالة الدكتوراه.
وعلى الرغم من كثرة أعمال الدكتور ناصر الدين الأسد وأشغاله أثناء رئاسته الأولى للجامعة الأردنية، لأنها كانت في مرحلة التأسيس والتطوير، فإن ذلك لم يخل بينه وبين لقاء الطلبة، فقد فتح لهم باب مكتبه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكان إذا أمكنته الفرصة يطوف بينهم في أرجاء الجامعة، فيحييهم ويتصل بهم سائلاً لهم عن أحوالهم، ومستفسراً عن حاجاتهم، ومستوضحاً عن مشكلاتهم، ومصغياً لملاحظاتهم، ومستجيباً لكثير من رغباتهم، وكان يفتح لهم المجال واسعاً للتعبير عن أفكارهم وعواطفهم ومواقفهم تعبيراً مسؤولاً، مانحاً لهم قدراً كبيراً من الحرية، ومدافعاً عن حقهم في ذلك عند كبار المسؤولين، وبلغ من إيمانه بذلك أنه عرّض نفسه للخطر حتى أصابه المكروه، ولحق به الأذى، وهو يذود عن حريتهم وكرامتهم خلال رئاسته الثانية للجامعة.
ويتصل أكثر ذلك برئاسته الأولى للجامعة الأردنية خاصةً، وأما في رئاسته الثانية لها فإني كنت حصلت على شهادة الدكتوراه ورُقيت إلى رتبة الأستاذية، ومع ذلك فإنني ظللت انتفع بعلمه ونصحه، وكان يكرمني بأنه كان يستشيرني في بعض الأمور، فكنت أصدقه القول، وكنت ازداد إجلالاً له، وإعجاباً به، وحباً فيه كلما رأيته يقبل قولي، ويصححه ويرجحه، ولم أكن شيئاً بالقياس إليه، إذ هو من ذوي التجربة والحنكة، وأولي الفطنة والحكمة، وكان في غنىً عن قولي!! ولكنه كان بطبعه يحب أن يستأنس برأي من يثق به، ولا يتسنى ذلك إلا لصاحب نفسٍ قويةٍ واثقةٍ، وإلا لذي خُلقٍ كريم أصيل.ويحضرني في هذا السياق أنه سألني عن رأيي ثلاث مرات في أمرٍ أراد أن ينفذه، فكررت عليه ما أجبته به أول مرة، وأكدته له فأخذ به، وكان في الأصل ميالاً إليه، ولكن كان يود أن يطمئن قلبه، وكان يروم من ذلك أن ينتفع بخبرة زملائه من أبناء جيله، وأن ينصفهم، ويعطي كلاً منهم حقه، ولا يظلم أحداً منهم، لتنافسهم واختلاف مذاهبهم ومواقفهم ومنافعهم.
وأشير في آخر هذه الكلمة إلى أن الدكتور: ناصر الدين الأسد ظل ينصح لي ويشد من أزري، ويعمرني برعايته ومودته، بعد أن أصبحت أستاذاً، ثم رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها، ثم عميداً لكلية الآداب، وأنه يحبُّ لي الخير كما يحبه لجميع أصدقائه، بل للناس كافةً، فهو من أنبل من عرفتُ من الرجال، ومن أصدق من بلوت من أهل الوفاء، وهو مصدر فضلٍ عميم، وبشير خيرٍ دائم، يلذ أن يسدي المعروف لغيره، ويسعد به.
هذه شذرات من ذكرياتي مع أستاذنا الجليل العالم الكبير الدكتور ناصر الدين الأسد، تدل دلالةً قويةً على خصاله الشخصية السامية، اجتمعت إلى علمه الغزير، ورأيه الثاقب، وأعماله القيمة، فجعلت منه مثلاً أعلى بين الرجال المرموقين والعلماء الموثوقين، مدّ الله في عمره، وأسبغ عليه موفوراً الصحة والعافية، وأمتع بفضله وخيره.