وقد استطاع أبي بفضل شعبيته الواسعة في الأوساط التجارية والصناعية والاجتماعية أن يوظف تلك الشعبية في خدمة النشاط الوطني الذي كان يمارسه ويموّله خلال الانتداب الفرنسي. وما أكثر الاجتماعات السياسية الحاشدة التي كان ينظمها في دارنا بحي مئذنة الشحم، حيث يستعرض فيها السياسيون البارزون في الكتلة الوطنية مستجدات الموقف السياسي وكيف ينبغي التصرف حياله. وتعتز أسرتنا بصورة فوتوغرافية التقطت لأحد هذه الاجتماعات في صيف عام 1928، ويبدوفيها الزعيم الوطني البارز فوزي الغزي، واضع الدستور السوري الأول، وهو يخطب في المستمعين المحتشدين في صحن الدار، وهم من التجار والصناعيين والمحامين والأساتذة والمثقفين، بينما يجلس في الليوان الزعماء الوطنيون السوريون وبعض أقرانهم اللبنانيين وعدد من رجال الدين الإسلامي والمسيحي.
أما الإضرابات التي كانت تدعو إليها الكتلة الوطنية احتجاجاً على قرار أو تدبير جائر أصدرته سلطة الانتداب فكانت شرارتها تنطلق من الأسواق، وغالباً من معمل أبي، فتغلق الحوانيت أبوابها، ويتعطل كل نشاط. ويقول المؤرخ الأمريكي البروفسور فيليب خوري الأستاذ في جامعة بوسطن في كتابه (سوريا تحت الانتداب الفرنسي)، (إن أهم هذه الإضرابات كان ذلك الذي دعا إليه توفيق القباني في شباط - فبراير1934 احتجاجاً على إغراق السوق بالبضائع الصهيونية (كالأقمشة والحلويات)، وقد جرى خلال هذا الإضراب إحراق كميات كبيرة من تلك البضائع في سوق الحميدية)*.
أما أطول الإضرابات فكان إضراب عام 1936، الذي عُرف بالإضراب الستيني (إذ استمر ستين يوماً) وقوطعت خلاله (شركة الجر والتنوير) ذات الامتياز الأجنبي، لأنها زادت أسعار ركوب الترامواي وتعرفة الكهرباء. والتزم المواطنون بالمقاطعة فامتنعوا عن استعمال الكهرباء، واستعاضوا عن الإضاءة الكهربائية بالشموع والكازات واللوكسات. وكان جزاء من لا يلتزم بالمقاطعة أن تلقى على صحن داره أوحانوته مفرقعة صوتية، هي عبارة عن كرة من لفائف قماشية، تحتوي على شيء من الزرنيخ والكلورات، فتحدث لدى إلقائها رعباً وإزعاجاً ولا تحدث أذى. وخصص أبي الفناء الداخلي لمعمله لإعداد هذه المفرقعات التي كان يتقاطر شباب الكتلة لحملها وإلقائها ليلاً من سطوح البيوت على صحن كل دار ينبعث منه ضوء كهربائي.
ولما ضاقت السلطات الفرنسية ذرعا بتزايد أنشطة الوطنيين، راحت تداهم بيوتهم، وتعتقلهم، وتلقي بهم في السجون. وكان أبي أحد هؤلاء، فقد داهم العساكر الفرنسيون بيتنا عند الفجر في أحد أيام صيف عام 1939، واقتيد أبي مكبلاً بالأصفاد في سيارة عسكرية مصفحة إلى معتقل تدمر، حيث أجبر هو وأقرانه الوطنيون على القيام بالأعمال الشاقة والمهينة كتكسير الحجارة وتعزيل المجاري تحت لهيب الشمس المحرقة، ومن ثم نقلوا إلى سجن الرمل في بيروت، حيث قضوا أكثر من عشرة شهور، ولم يفرج عنهم إلا عندما انهارت فرنسا أمام الجيوش الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. ولم تلبث السلطة الفرنسية في سوريا، التي أصبحت تحكم باسم حكومة (فيشي) المتعاونة مع الألمان، أن راحت تسترضي الشعب السوري، وقام المفوض السامي (غابرييل بويو) بجولة في المحافظات عسى أن يستميل وجهاءها، حتى إنه حضر صلاة عيد الفطر في الجامع الأموي. ولكن ذروة الاسترضاء جاءت على يد قوات فرنسا الحرة التي كانت قد تحركت نحو سوريا من الحدود الفلسطينية، وما إن تمكنت من هزيمة قوات (فيشي) حتى سارع الجنرال كاتروإلى توجيه بيان إلى السوريين باسم قائد فرنسا الحرة الجنرال شارل دوغول بتاريخ 9 حزيران - يونيو1941، أعلن فيه إنهاء الانتداب الفرنسي واستقلال سوريا ولبنان. وبينما كانت قوات (فيشي) تتقهقر وتتشتت فلولها، طرق باب بيتنا ضابط فرنسي وسأل عن أبي، فتوجسنا منه سوءاً، وتخوّفنا منه، لكن سرعان ما استبان لنا أنه واحد من قوات (فيشي) المندحرة، وأنه مذعور ويخشى على نفسه من أن تؤذيه القوات الحرة إن هي أمسكت به، ويرجولونخفيه عندنا ريثما تنجلي الأمور. وهنا تبدت المروءة العربية الأصيلة عند أبي بأجلى مظاهرها حين رحب بهذا الطارق الغريب، وأجار واحداً ممن يمثلون أولئك الأعداء الفرنسيين الذين ساموه العذاب في سجون تدمر وبيروت منذ أمد غير بعيد. وما لبث أن طمأن الرجل وأفهمه أنه في مأمن، وأن لا بأس عليه، وله أن يبقى عندنا ضيفاً مكرماً ما دام ثمة خطر يتهدده، حتى يهيئ الله له مخرجاً.
* الكتاب صادر باللغة الإنكليزية عام 1987 عن دار نشر (توريس) اللندنية - صفحة 447