بجسده المتداعي الذي ينوء بالسنين والمشروعات والموسوعات يتجلّى د. عبدالوهاب المسيري في تمظهرٍ جديد شفاف ليقدم ما هو جديد وشفاف ويبسطه بين يدي المندهشين ويؤثث مدارات وآفاقاً لم تُسْكَن بعد أو لم تطرقها رحلات الجغرافيين في يابسة الفكر.
أجدني مدفوعاً إلى الاعتداء الوحشي واغتصاب هذا الشطر الشعري الفريد للشاعرة لمعية عبَّاس في سياقه الرثائي ونصبه عنواناً لهذا المقال أو الرسالة المقتضبة التي تكاثفت عفواً في مساحات دهشتي وأنا أعانق د. المسيري في المصعد المؤدي إلى قاعة المحاضرة وهو يخطو بوقار الإعياء وقد حَنَتْهُ حانيات الدهر حتى كأنه خاتل يدنو لصيد بحسب الشارد الشعري.
المسيري هو صدفة حدثت للفكر العربي وتتجلى في توفره على جملة من الصدف العصية التي لا تلتئم طوعاً إلا في نموذج الكبريت الأحمر في كيمياء الثقافة وغاية ما يحيرني في شخصه هو طغيان جانب التجربة على جانب الشخص في المسيري كقيمة حرَّضَتْ بعنفوان على أسئلة تخدش الغفلة وتفض الرسائل المغلقة بالشمع وتشاغب الشفرة السمينة وتغازل أميرات الفكر المحصنات في القصور المكنية.
المسيري الذي تنقل برشاقة بين القناعات والمدارس الفكرية والإنسانية وانتهى إلى أكثرها إنسانية وهي المدرسة الإسلامية إذ هو ابنها البار من قبل ومن بعد حين مارس إنسانيته فيها دون انقلاب كاسر على تاريخه بل كان التبدل الطبيعي المثقف الأنيق المشفوع بالرغبة الملحة على الحوار في سبيل طرح حقيقة مطلقة مفادها أن ثمة حقيقة واحدة على الأرض هي ظل الحقيقة الواحدة في السماء ليضيء المسيري هامشاً رحباً داخل الجدل الثقافي الإسلامي يدشن فصلاً حيوياً في مدرسة الفكر الإصلاحي الديني... ويقدم نفسه ممكناً من ممكنات سهلة استصعبها خصوم التجربة الإسلامية الذين استبعدوا نهوض هكذا مشروع تفكيري نادر استثنائي بأدوات إيمانية إبداعية اتخذت موقفاً حاسماً علنياً ساخراً وعميقاً ضد ما هو علماني بل قللت من أهميته إنسانياً ومدنياً تقليلاً من شأنه أن يعيد ليس فقط المؤمن بعبقرية إيمانة بل الإنسان بعبقرية طهوريته ومفاصلها المنتجة المؤسسة لخارطة الإنسان الجديد.. يقول الدكتور المسيري لتعميق هذا الشعور المقاوم للدونية: إنه - في معرض الدعابة - يطلب من طالباته أن يقرأْنَ تراث أرسطو ليتعرّفْنَ على مدى تأثر أرسطو بكتابات أستاذهن المسيري وهو يشي بأن القدرة والطاقة ليس لها جنس أو لون أو جغرافيا بل هي مُشاع إنساني والتفتيش عن مخابئ التفوق في الوعي الحضاري مسئولية المنكسرين المستمتعين بانكسارهم وتندرج في هذا الإطار مقولة سارتر (المشلول وحده المسؤول عن فشله أن يكون بطلاً رياضياً).
المسيري في مشواره الإسلامي يقف الموقف المثقف الوسطي في تفاؤله وتشاؤمه بشأن مسألة التقدم، فلم يعمد قط إلى رسائل الرثاء واليأس من نهوض أمته، وفي الآن ذاته لم يرتكس في الشعاراتيات التي تحتفل بالماضي وتَفْنى في مآثره، فلا هو حداثي حالم ولا من دراويش التاريخ، فهو يحاضر لعقول يثق بها وبقدرتها على إصلاح ذاتها إذ هي تمتلك مقومات ذلك دون الاتكاء العجائزي على عكاز مستورد لا سيما أن العكاز سينهض بوظيفته سوءاً صنع غرباً أو شرقاً ولكن ليت قومي يعلمون.
أنْجَذِبُ كثيراً إلى واقعية المسيري وحسه الشفيف والعملي والأخاذ في نقد (ثقافة المؤامرة) ووضعها في غير إطارها ووصفه من يؤمن بالمؤامرة تعسفاً بالكسل إذ الكسل هو سبب كل شرّ بحسب المثل الغربي، وعند إعمال هذا الرأي في الواقع أجدني أقف على إحصاء كاسح وحاسم يتجه إلى شبه التسليم بربط وتناسب طردي بين الكسل الذهني من عدم الرغبة في البحث ومع الإيمان بالمؤامرة المجانية، فالمؤمنون ببروتوكولات حكماء صهيون بوصفها مؤلفاً صهيونياً آمنوا لأنهم يريدون أن يؤمنوا وليس لهم طاقة في البحث عن جذور هذا المؤلَّف بل ويتصدون للباحثين المتخصصين الذين نفوهم وعلى رأسهم المسيري وقد قرأت استقصاءه المذهل في إنكاره يهوديتها على الرغم من يقينه بمضمونها وعلى الرغم من عدائه الشرس لليهودية ومشروعها الامبريالي الاستيطاني الشيطاني.
أنتهي إلى أن المسيري حالة تنويرية محافظة مثلت حالة وتيار وعي جسد عدة حقائق وواءم بين مواصفات الحداثة المؤمنة وفجر مشروعات في نقد المادية والحضارة الغربية دون دافع غير إنساني ورمي بأدوات تحليلية فلسفية هي نتاج خمسين عاماً من البحث والتأمل دون أن يبرز في الساحة أي تبنٍ واضح للخط النقدي الذي أسس له المسيري سوى بعض الكتابات أو الكتب التي طُرحْت هنا وهنا.. على مريدي وطلاب وقراء المسيري أن يتعاملوا مع مشروعات المسيري على أنها نقلة فعلية في آلية التلقي والتأويل وأن التعاطي معها على نحو صحفي هو تبحيس لهذا الكدّ المضني وإقامة مهرجان خاص بشخصه وتجربته بات أمراً ملحّاً وهو أقل من يمكن يقدم لتخليده في الوعي العربي الإسلامي المنكسر لإنعاشه وتعزيز جوانب الحرك فيه.
من الممكن أن أكون من القلة الذين بادروا لكتابة هذا الكشف والعتاب لكن سأكون من الكثرة الذين سينتظمون بشرف في مشروع إحياء تراث المسيري ونشره .. أرجو أن يمدّ الله في عمره فلنا كلام كثيرٌ معه عن الإنسان والفكر وأسئلة بحجم قلق الأرض.
- الرياض
hm32@hotmail.com