يومياً، يتحلقون حوله مكونين دائرة كاملة من الكراسي فوقها الشخوص، هم جوقة المريدين له، يجلس مثلهم فوق الإطار الوهمي للدائرة وكأن خلفه عموداً مضيئاً من السماء إلى الأرض، وأحياناً يركب حصان الكلام فلا يدركه أحد، وكثيراً ما تجنح سفن بوحه في كل حدب وصوب، يتكلم في كل الموضوعات المطروحة أمامه أو التي يطرحها هو، يجول ببصره كثيراً كأنه يستحضر ذكريات موجعة كجراحة بغير مخدر، تتوقع أن يصرخ، أن يعلن رفضاً للمسكون بالخراب ورائحة العفن، لكنه سرعان ما تعلو وجهه الابتسامة المليئة بالأمل في الحياة الأفضل.
لم يكن الأعلى مرتبة ثقافية بين الحاضرين المتحلقين، ولم يكن يملك مالاً يؤهله لأن يصمت الجميع حين يتحدث، لم يكن يملك أيضاً ما يحني الرؤوس في هذا الزمان، ولم يكن أكاديمياً ليعلق شهاداته على جدران مسكنه الشعبي، لكنه كان فصيحاً كخطيب مفوه، ويحاضر كأكبر أساتذة أكسفورد.
حين يموج الحديث ناحية الدين، يرتدي عباءته ويجترح الأحاديث والآيات القرآنية، وحين يدور الكلام عن الشيوعية والملحدين، تراه يرتدي عباءة ماركس وإنجلز ويتحدث مثلهم عن العدل الاجتماعي وضرورة توزيع الثروات، حتى حينما يتحدث أحدهم عن افتتاح الحكومة لمشروعات هنا وهناك يتحول خبيراً اقتصادياً يخطئ الحكومة أو يصوبها، على غير نفاق، أعلن كثيراً أنه لا يحب السياسة ولا جلاديها..!
اتهم كثيراً بالتحريض، طلبوا منه الاعتراف فلم يعلق.. حبسوه، حاولوا قطع لسانه، فخرج من خلف الجدران المعتمة النتنة يمتلك ألسناً عدة بها الأجوبة لكل من أراد الحديث إليه ليجلس في الدائرة من جديد، ويشعل سيجارته البيضاء التي لا يكاد ينفث دخانها كله، حتى يشعر بحرارة النار المختبئة تحت الرماد الخبيث الطويل في مؤخرتها، يلقيها بعيداً بكل حرص حتى لا يؤذي أحداً بها.
تدور الدائرة وهو فيها كموجة إعصار من مختلف الأعمار والأطياف يجلسون إليه يستمعون لما يقول، يحاولون أن يخطئوه، استعدوا له كثيراً بالأسئلة المحرجة أو التي تصوروها كذلك، تماماً كأسئلة المحقق المعلقة على رؤوس نووية موجهة، ولم يقدروا عليه، انتظروه أن يحضر الليلة -ككل الليالي- لتدور الدائرة من حوله وهو فيها، ورغم حبه الشديد للحياة إلا أنه -فجأة- مات!