ويبقى الشاعر توفيق صايغ - صاحب (قصيدة كاف) الشهيرة - متفردًا في ترجمته لخمسين قصيدة من الشعر الأمريكي الحديث.. التي ضمها في كتاب و صدرت الطبعة الأولى في العام 1963م، فيما صدرت الطبعة الثانية في لندن في العام 1990م في مجلد فاخر أنيق عن (رياض الريّس).
إن الشاعر صايغ (المتخصص في الأدبين العربي والإنجليزي، والمتخرج في جامعتي هارفارد وأكسفورد) نأى في مشروعه هذا عن الترجمة الحرفية التي تتوخى الأمانة لنقل صورة صادقة لحال الشعر الأمريكي، كما نأى عن الترجمة الخلاقة التي تترجم القصيدة لا أبياتها وتصوغ الأصل من جديد وتعدّل في ترتيب المقاطع.
لقد اختار (الحل الوسط) لكي تكون ترجمته قريبة من الأصل الإنجليزي - أو بالأحرى الأمريكي - ويقول: (حاولت فيها أيضاً أن تكون عربية وأن تعطي القارئ العربي ما شاء الشاعر الأصلي أن يعطي قارئه)..
ويضيف: (حرصت أن تكون الترجمة ترجمة، لا تعليقاً ولا توضيحاً، حتى في المواضع الصعبة المبهمة)..
ولقد جاءت ترجمته منحازة للجمال، وجاءت لغته مفعمة بالفاتن الوسيم.
في ترجمته لقصيدة (جمالية الإثم) للشاعر والاس ستيفنز الذي يتصف شعره بأنه صعب جدا لكونه (شعر تأملات)، استطاع صايغ أن يجلسنا على مقربة من صوت (والاس) الذي كتب عن (فزوفيوس الذي يكتب رسائل للوطن):
(استطاع أن يصف هول الصوت
لأن الصوت كان عتيقاً..
حاول أن يستعيد العبارات : الألم المسموع
في الظهيرة، الألم المعذب لذاته،
الألم الذي يقتل الألم على شفا الألم ..)
ويصلنا صوت هذا الشاعر واضحاً وجميلا عبر حبر توفيق صايغ هكذا :
(موت الشيطان كان
كارثة ً على الخيال)
(ولم يبقَ شيء سوى
البشاعة المضحكة أو عدم لامع ..)
وتصلنا مرارة الشاعر الأمريكي واضحة عبر لسان توفيق وهو لسان فصيح :
(الحياة صلٌّ مرير،
لسنا في وسط ماسة)..
ويبدع توفيق صايغ أيما إبداع وهو ينقل إلينا قصيدة (البرواقة، تلك الزهرة الخضرة) للشاعر وليم كارلوس وليمز، التي عدّها ريتشارد إيرهارت (من أحسن قصائد الحب في زماننا هذا).. وبوسع المتلقي أن يرى بأصابعه وأن يصغي بعينيه إلى صهيل الشعر/ الشعر في هذه الترجمة الرائعة :
(أضحى العالم بأسره حديقتي
لكنما البحر أيضاً حديقة) ..
أو قول الشاعر وليم:
(عندما أفكر في البحر
دوماً، تأتي ببالي الإلياذة).
إن وليم يحضر وهو بكامل شاعريته بل إن بوسع المتلقي أن يشم رائحة الزهرة وعبقها، وضوع طفولته الآفلة عبر هذا المقطع الجميل:
(عندما أتحدث عن الزهور
فذلك لأعيد للذاكرة
أننا بوقت مضى
كنا صغاراً)..
وبوسع كل قارئ أيضاً أن يعثر على (هيلانة) التي تخصه كلما قرأ هذا المقطع:
(ليس جميع النساء هيلانة
أعرف هذا ..
لكنّ في قلوبهن هيلانة) !
وبوسعه أيضا أن يتشبث بحبه وبكل ما فيهن سعير وأن يشعر أنه يستوعب كل هذا العالم في قلبه وأنه يقبض على كل الجهات الفاتنة بأصابع يد واحدة، وذلك عندما يقرأ قول الشاعر نفسه :
(إنه حبُّ الحب ِّ،
الحب الذي يستوعب كل شيء آخر) ..
لأن (الحب حديقة تتسع) ...
شخصيا شعرت هنا أن القصائد أزهار، أليست القصائد أزهاراً حقا كما يقول وليم ؟
تماما كما شعرت بالفجيعة التي قد يشعر بها المتلقي نفسه عندما يقرأ هذا المقطع من القصيدة نفسها:
(أتذكّر أن القنبلة أيضا
زهرة مكرّسة
لكنما لهلاكنا) !
وبحس سليم وذائقة راقية يختار توفيق صايغ قصيدة (ما تحبه الحب الصحيح يدوم) للشاعر الكبير عزرا باوند الذي أهدى له إليوت قصيدته الشهيرة (الأرض الخراب) بوصفه معلما كبيرا - وفي هذه القصيدة يؤنب باوند نفسه على غروره وحقارة كراهاته :
(ما تحبه الحب الصحيح يدوم
كل ما عداه نفاية
ما تحبه الحب الصحيح لن يُغتصب منك
ما تحبه الحب الصحيح إرثك الحق ..
(خفف غرورك
خففه، يا ( باكين)
الغلاف الأخضر بزّكَ أناقة ً
تغلّب على ذاتك،
يحتملك الآخرون)
(خففْ غرورك
ما أحقر كراهاتك
المغذاة بالأكاذيب
خفف غرورك
متعجّلٌ في الهدم ِ
بالبرِّ ضنين ..
خفف غرورك) !!
هل هذا الشعر مترجم حقا ؟ هل فكرت بهذا وأنت تقرأ هذا النص الجميل الذي يهب ناعما كنسيم الحدائق ؟ إنها من دون ريب براعة المترجم الذي هو في الأساس شاعر مبدع وليس محض مترجم موظف عند الكلمات..
إن بناء القصيدة في هذه الترجمة التي قام بها توفيق ليدل على مهارة ودربة واضحتين في تعامل المترجم مع القصائد التي قام بترجمتها فهو لم يتصد للترجمة بناء على طلب ما، من جهة ما، وإنما تصدى لهذه المهمة الصعبة لأنه يُؤثر أن يستمتع هو نفسه بهذا الإبداع الجميل..
إن توفيق صايغ يبدو بمستوى واحد من البهاء والألق والاقتدار على الرغم من تنوع القصائد وتعدد الشعراء .. في هذا المشروع الذي أنجزه صايغ باكرا في العام 1963م، لنقرأ معا مقاطع من قصيدة (سأضحك ملء شدقيَّ) للشاعر روبنسون جفرز :
(هرمٌ أنا كحجر
أما هي فجميلة)
(الحرب على الأبواب
سيذهب الفتية الظراف جميعا للقتال
يمرُّ التاريخ كصخر يتساقط)
(حافظ على سلامة عقلك
في زمن السوء
في زمن الجنون)
(يتهاوى التاريخ كصخر في الظلام
كل شيء سيزداد بلبلة عما قريب) ..
على الرغم من عنف النص وقسوته وهجائه للحرب إلا أن توفيق نقله إلينا محملا بالشعر وليس بأي شيء سواه ( كالصراخ أو الخطابة المباشرة أو البيانات السياسية الجافة).. أبدا، لقد ظلت القصيدة محتفظة بوهجها الشعري على الرغم من كون موضوعها قاسيا...
ويختار توفيق صايغ أن يترجم قصيدة (أميركا كانت وعودا) للشاعر أرشيبالد مكليش الذي يكتب شعرا سياسيا، لكنه يكون (في أوج شاعريته حين يكتب شعرا سياسيا) لأنه يبحث في علاقة الإنسان بالمجتمع:
(ثمة أموات في المناجم
أفواههم صامتة
لكنهم يتكلمون)..
أليست هذه الكلمات تقطر شعرا ؟ أليس توفيق بذائقته ولغته وموهبته بوصفه شاعرا استطاع أن يختار النص البهي ببراعة، وببراعة استطاع أن ينقله إلى لغة الضاد ؟
إن ترجمة توفيق صايغ، من ذلك النوع الذي يجعلك تنسى أن هذا النص الذي أمامك مترجم، وتظن لوهلة أنه نص أصلي .. وأنه مكتوب بلسان عربي مبين ..
هذا ما يتضح بجلاء في ترجمة (صايغ) لهذه القصائد الخمسين، التي اختارها بوعي، وحساسية شعرية مفرطة ..
إن هذا الهاجس داهمني بشدة، حينما كنت أقرأ قصيدة (تنقّل أبي ما بين هلاكات حب) للشاعر إدوارد استلين كمينغز الذي يتجلى في شعره (هجوم عنيف مستمر على المجتمع وقيمه، وعلى الحضارة الآلية، والحرب، والعادات، والحياة المادية والسياسية في وطنه - أمريكا -) ..
ومع هذا فإن في هذه القصيدة (شعرا رقيقا ناعما مستمرا عن البراءة والحب والفردية والربيع والأزهار والأطيار) ..
فهذه القصيدة التي تعد (واحدة من أجمل القصائد الغنائية التي أنتجتها أمريكا) - بحسب شهادة ثيودور سبنسر - لم ينطفئ وهجها عندما نقلها توفيق صايغ إلى العربية، بل ظل يتسرب إلى القلب كلما قرأت هذه القصيدة:
(رفع أبي وديان البحر
وتنقل بين أحزان فرح
مادحا جبهة اسمها القمر)
(كانت أغنيته الفرح، والفرح الصافي
بحيث يمكنه أن يسيّر قلب نجمة)
(غيظه كان حقا كالمطر
عطفه كان أخضر كالغلال)
(حزنه كان صادقا كالخبز)
(وكانت كل طفلة واثقة ً
من أن الربيع يرقص
عندما سمعتْ أبي يغني)
أليس هذا النص قريبا من ذائقتنا - نحن العرب - أليست لغته التي توهجت على أصابع توفيق تحمل أنفاسنا وعبق مشاعرنا ؟
وأترك الإجابة بين يدي المتلقي