لعلّ تقييم المشهد الثقافي الأدبي الإبداعي في المملكة العربية السعودية سيأتي منقوصاً ومبهماً إذ إنه يفوق قدرتي على الإلمام والتشميل حتى التضمين لطبيعة المشهد في عمومه وخصوصه على حدّ سواء، فكل ما يتناهى إلى نطاق اهتمامنا نحن الواقعين على الجهة الأخرى من دائرة التلقي للحدث والضخّ الثقافي المعرفي الفكري الأدبي الإبداعي، غير كافٍ وغير كفيل للوقوف على تفاصيل المشهد بكامل حيثياته وخصائصه سعودية كانت أم خليجية، وإذا كان ثمة العديد من الاستثناءات التي تعمل على تظهيرها وتكريسها الوسائل الإعلامية باختلافها بين مقروء ومرئي ومسموع من حين لآخر، فهي بالتأكيد واقعة تحت تأثير قوس نصر العلاقات الشخصية المباشرة، والتي تحدد مساراتها على أوسع نطاق أو على أضيقه، وقد تغلبت وقائع (المحسوبيات) على معظم فعاليات التجارب الطارئة منها والأصيلة إذ إن كثيراً من المتابعات العربية تغالي في الاهتمام والاحتفاء لبعض الإصدارات السعودية تحديداً، مما يثير حفيظة معظم علامات الاستفهام والتساؤل عن مدى موضوعية الطرح ومصداقية التقديم للأعمال المتراكمة على تنوعها واختلافها، وقد بدأت تواكبها بالفعل (همروجات) إعلامية صاخبة لا تتعدى مسرح الإصدارات المرتبط تلقائياً بآنية الحدث وسطوعه وتوهجه، والذي سرعان ما يبهت ويتلاشى إلا اللهم القيم منها دون أدنى شك، والذي بمستطاعه أن يصمد على تعاقب الزمن والإصدارات لأنه أصلاً خارج قوانين الجاذبية (المناسباتية) المستحدثة والطارئة والمفتعلة أحياناً، وبالعودة إلى المشهد الثقافي من وجهة نظر شخصية عن مدينة الرياض خصوصاً والمملكة العربية السعودية عموماً، فزيارتي لمدينة الرياض هي في حقيقتها زيارة خارج البوتقة الثقافية وملحقاتها وتداعياتها التي عرفتها على أكمل وجه عبر أهم العواصم العربية الأخرى، فزيارتي هذه المرة هي دعوة فائقة الخصوصية من الناشطة الثقافية (ذكرى الحربي)، وهي شابّة شغوفة بالكلمة، تمتلك مزية الحسّ العالي في حالي البث والتلقي، كما أنها مهتمة شديد الاهتمام بالحقول الإبداعية وحسب رأيها أنها وجدتني واحدة من العاملين فيها بشيء من الجدية وكثير من الالتزام، مما ساعد على فتح المجال لدراسة بعض الاحتمالات المفتوحة على عناوين عدة لمشروعات ثقافية قابلة للتحقق ربما، تماماً كما هي قابلة للشطب والإلغاء دون قيد أو شرط، وذلك تبعاً للظروف القائمة على متن جسر من التواصل أشهد بإكبار كيف تعمل الحربي على تمتينه بجهود جبارة تختزل برأيي الشخصي إمكانات مؤسسات ثقافية حكومية برمتها، المؤسسات التي نشهد للأسف (تهالكها) تباعا أو (احتكارها) جملة وتفصيلاً من مافيات الحركة الثقافية في أصقاع المعمورة والمصالح، ولا أخفي أن هذه الزيارة لم تكن لولا دعم وتسهيل سعادة السفير عبدالعزيز خوجة الذي أوجد زمناً قيّاساً للحصول على تأشيرات السفر أول أيام الأضحى المبارك، مختزلاً الترتيبات وبيروقراطياتها كافة، بتوصيات كريمة أدون له بإمعان هنا كلمة شكراً بطريقة تليق بشاعر وإنسان راق مثله، وعلى هامش احتشاد أفكاري وتزاحمها لتوطئة وتوثيق النظرة الإجمالية التي عزز فضولها وإبرازها اهتمام صحيفة الجزيرة الغراء التي جعلتني بهذه المراجعة أسلط الضوء وإن على عجالة فائض الحفاوة وفائق الضيافة والاهتمام الذي عرفته مختزلاً في عائلة وشخص الحربي الساعية بضراوة لرفد المشهد الثقافي وتوثيقه، تضامناً مع قريبتها (هند البصيّص) التي تختصر رقي بنات الرياض المغيب قسراً عن رواية (رجاء الصانع)، والموثق مبدأ وقضية في رواية (فايزة إبراهيم) بنات من الرياض، كل ذلك ارتبط بذهني ارتباطاً أحادي الجانب حيث يغلب عالم المرأة كأبرز الوجوه الثقافية التي أتيح لي متابعتها عن كثب في جملة التشكيل العام، وذلك بحكم الترتيبات المعدة لطبيعة الزيارة وطابعها على وجه الإجمال، وربما بحكم الأبواب الموصدة على خصوصية عالم المرأة ونمطية حياتها المغلقة على انفتاحها التي أبعدتني دون قصد عن متابعة المراصد الثقافية الحيوية الأخرى، بحكم الفصل والعزل وندرة الاختلاط في طبيعة الحياة داخل المملكة، ولعل ذلك سمة خاصة من سمات الحياة الثقافية في المملكة العربية السعودية التي لم تشأ بعد تداخل التجربة الثقافية وتفاعلها المشترك، تيمناً بنمطية الحياة الاجتماعية السائدة والمتاحة التي تيسر لي بعض (الاختلاسات) التي أعادتني إلى أجواء رواية (هاني نقشبندي) وإسقاطاتها المختلفة التي وسعت حدقة التلصص والتدقيق بذهنية استعادية، وعلى هامش تلك الملاحظات الأفقية عموماً، والتي تنسحب على رحابة الرياض الجغرافية المفتوحة على الجهات كافة، تبقى الثقافة الأكثر حضوراً وتداولاً وممارسة، وحسب وجهة نظر أولية هي ثقافة الاستماع، وما أكثر التجارب الفنية الجديرة بالمتابعة حيث لا تزال المفردة المنتقاة بعناية فائقة تلعب دوراً محورياً وحميمياً في هندسة الشعور والذائقة والإصغاء والمتابعة، وهي اللغة المشتركة للحوارات والنقاشات المتداولة تحت سقف الاهتمامات الشاملة، ويحضرني القول في هذا السياق ظني التام بتفردي المطلق بتسجيل إعجابي المتكرر وفي مناسبات مختلفة بمطرب كبير كأبي بكر سالم بالفقيه الذي أثمّن فنه الراقي غالياً، غير أنه تبين أن عشق مطرب كأبي بكر سالم هو عشق متفق عليه بين عموم بنات الرياض وربما عموم بنات المملكة قاطبة، وهذا أمر بمنتهى الشيوع والبساطة والأحقية لصاحب حنجرة خالدة لا يمكن استنساخها أو تقليدها تحت طائلة أية مهارة استثنائية كانت، لكن المستغرب حقاً أن تقف طبيعة هذه المدينة وخصوصيتها حائلاً دون تواصلي مع صديق عريق كأبي بكر، وقد سبق أن جمعتني القاهرة وعائلته الكريمة مرات عدة، وهو الذي يحتفي ويحتفظ دائماً بكل ما تخطه حروفي عن قامة إبداعية شامخة، كقامته.. حيث إن (العمالة الأجنبية) المتغلغلة في نسيج المجتمع السعودي والتي بتقديري تقهقر المشهد العام تقهقراً مريعاً، وخصوصاً عندما تصبح هذه العمالة وجهاً من وجوه التحكم في مفاصل الحركة الاقتصادية على تنوع المشروعات التجارية وضخامتها، والتي تفتقر فعلياً إلى المهنية والخبرة والرقي في بروتوكولات التعامل، هذه الملاحظات التي ظننتني سأركنها جانباً بكامل تناقضاتها، وإذا بتلك العمالة تطال سمعي لتخبرني أن (أبوبكر سالم) لا يتحدث إلى أحد، هذا البيان الصارم الذي أدلى به عامل الهاتف دون أي هامش للمراجعة ضارباً هذا العميل الفذ عرض الحائط ما تعنيه مكانة فنان كبير كأبي بكر تصدّر الكثير من مقالات أكتبها ولطالما احتفى بها مطرب خلاق أدين له بتهذيب ذائقتي وتنمية الأذن الموسيقية الصحيحة والقدرة على الاستماع الجيد، ليؤكد لي عامل الهاتف أن أبوبكر لا يتكلم إلى بنات في الرياض شاعرات كنّ أم لم يكنّ!..
www.geocities.com/ ghada samman
gaidoushka@yahoo.com
- بيروت