ظفِرتُ خلال معرض الكتاب الفائت برواية سعودية جديدة طُبِعت هذا العام 2008م، وهي رواية (حقول طالبان) من تأليف عبدالعزيز السليم ومن مطبوعات دار فراديس للنشر والتوزيع في البحرين. تدور أحداث هذه الرواية داخل مدرسة حكومية سعودية لطلاب في المتوسطة والثانوية، يحاول خلالها الكاتب تصوير ما يدور داخل مدارسنا الحكومية في 450 صفحة تقريباً. وقد اعتمدت الرواية تكنيكين فنيين لتعرض أحداثها أمام عيني القارئ، هذان التكنيكان هما: (التراتب والتجاور). حيث يظهر تكنيك (التراتب) -وهو انبناء الأحداث بعضها على بعض- من خلال الصراع الذي يدور داخل المدرسة بين أستاذين يتّخذان دور البطولة الروائية، وهما: رياض العسجد المدرّس المستفزّ ذو الفكر التنويري الذي لا يرضيه حال الأساتذة والطلاب، فيواجه فكر الأساتذة ويحرص على بث أفكاره التنويرية في طلابه، وعون الله الظهيري أستاذ التربية الإسلامية الناشط في الدعوة والإنكار والنشاط الطلابي، وتوظيفه ذلك كله لنشر أفكاره ورؤاه بين الطلاب. حيث تصوّر الرواية حالات صدامٍ بين الفِكَرين، يجد بسببها العسجد عداءً من الإدارة والإشراف التربوي وبعض الأساتذة والطلاب، في حين تُعطى الثقة المطلقة للأستاذ الظهيري. ثم يحاول الظهيري فيما بعد فرضَ أفكاره على إدارة المدرسة فيصطدم بها وتقرّر إبعاده، إلا أن تلاميذ الظهيري الذي تربّوا على أفكاره يثورون في وجه إدارة المدرسة والمدرّسين فيرجمونهم بالحجارة ويحرقون المختبر، فتسيل الدماء وتسقط الضحايا، ولا يُنهي الموقف سوى قوات الشغب التي جاءت لتفريق المتظاهرين.
في حين اعتمدت الرواية تكنيك (التجاور)، - وهو سرد أحداث لا رابط بينها سوى وقوعها في مكان واحد-، لتقدّم خلال صفحاتها عرضاً بانورامياً لواقع المدارس التعليمي المحلّي، عبر نقل مشاهد متنوّعة يعرض كل مشهد منها واحدة من مشكلات التعليم اليومية، مثل بعض مشاكل الطلبة كضعف مستواهم العلمي، وكثرة غيابهم، وسوء سلوكهم..إلخ، وبعض مشاكل المدرّسين من حيث تفاوتهم في الإخلاص للعمل، أو ضعف الشخصية، أو العنف في التعامل مع الطلاب، أو انضباطهم السلوكي والتربوي..إلخ. وقد أخذ هذا العرض مساحة شاسعة من صفحات الرواية.
وبرغم جمال الرواية وبراعتها الفنية في وصف أحداث الرواية وقضيتها بشكل مبدع، إلا أنه يُعاب عليها الإطالة غير المبررة في هذا المحور، حيث تسرد أحوال المدير والوكيل والمرشد والأساتذة والطلاب، (مما يحصل في مدارسنا يومياً مما لا أرى له داعياً فنياً)، وهو ما جرّ الكاتب إلى ذكر شخصيات هامشية ليست ذات أثر واضح على قضية الرواية، فهو يخصّ جميع أساتذة المدرسة وبعض الطلاب بحديث مسهب ودون داع. ولذا فالقارئ لا يتمكن من الدخول في عالم الرواية وقضيتها إلا بعد وصوله صفحة 140 تقريباً. ولو اختُصِرت الرواية بالتركيز على محور الأحداث المتراتِبة لربما كانت أكثر إبداعاً وإخلاصاً لفكرتها ورؤيتها الرئيسة.
بيد أن السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو عن العلاقة بين هذا الواقع التعليمي وعنوان الرواية. فالعنوان ينطوي على كلمتين دالتين: هما (حقول - طالبان)، فما علاقة هذا العنوان بالمدرسة؟. (الحقول) كلمة مفردها: الحقل، وهو المكان الذي تُزرَع فيه البذور لتنبت فيما بعد، أو أن يُقصَد بها (حقول الألغام) المعروفة. و(طالبان) هي إحدى الحركات الإسلامية التي عُرِفت بتشدّدها الديني، فماذا يودّ العنوان أن يقول؟ هل يقصد بأن المدارس الحكومية هي أماكن تُزرَع فيها أفكار التشدّد الديني؟! أم تُراه يعتقد بأن المدارس هي أماكن يَزرع فيها الفكر المتشدّد حقول ألغامه الفكرية لتنفجر في وجه المجتمع فيما بعد؟!. المقصدان - إذا صحّ هذا التفسير- يذهبان إلى وجود مشكلة في التعليم الحكومي، مشكلة زرع بذور الفكر المتطرّف في عقول الطلاّب. وعلى هذا التفسير تصبح الرواية رواية واقعية، بحيث يُقال إن واقع المدرسة حقيقي، وأن الرواية تنقل - حسب رؤية المؤلف- واقعاً فعلياً تعيشه مدارسنا الحكومية.
على أنه يمكن أن تكون الرواية رواية رمزية إذا قلنا بأن المدرسة مجاز لا حقيقة، بحيث تتجاوز حدودها المكانية الضيقة لترمز إلى الوطن كله. يؤكد هذا البعد الرمزي ما تقوله الرواية في صفحتها الأولى عندما تصف المدرسة بأنها: (دولة صغيرة، بل دول تلهو، تختلط فيها الآراء وتتصارع فيها السياسات والمصالح) (ص5) فالمدرسة هنا دولة تختلط فيها الآراء وتتصارع. وتؤكده أيضاً الصفحة الأخيرة من الرواية، بعدما قُضي على الثوار، حيث (اصطف الجميع في الطابور الصباحي... حتى أنشدوا: سارعي للمجد والعلياء... يا موطني. موطني عشت فخر المسلمين. عاش المليك للعلم والوطن) (ص446).، فهنا يُحتفَل بالقضاء على المتمرّدين بالنشيد الوطني الذي تختتم به الرواية كلماتها، مما يدلّ على دلالة المدرسة الرمزية على الوطن، ودلالة القضاء على الطلاب المتمرّدين بقضاء الدولة على الإرهاب ودحر مخططاته.
وهو ما يجعل صراع الظهيري والعسجد صراعاً بين تحرّر الأفكار التنويرية وصلابة الأفكار السلفية فوق تراب الوطن. فالظهيري رمز للتيار السلفي الديني الذي تصوّره الرواية وهو يقوم بتفريخ جمعية التوعية الإسلامية إلى جماعات مختلفة تحشد الأتباع وتجمع الطلاب بمختلف اهتماماتهم وميولهم. تقول الرواية: (جماعة التوعية التي كبرت وتضخمت إلى درجة مؤسسة ضاقت بها المدرسة فتفرّقت إلى مؤسسات موالية، كجماعة المكتبة، وجماعة الإذاعة، والنادي العلمي، وفي المستقبل الرياضي وغيره. حتى الأستاذ عون الله نفسه استطاع أن يدخل عضواً في لجنة الإرشاد في المدرسة، إضافة إلى كونه عضواً في مجلس إدارة المدرسة، فاستطاع أن يضم الطلبة المطرودين من فصولهم من مهمة المرشد أو الوكيل ويزج بهم في أحضان حجرة التوعية الإسلامية، مقنعا الوكيل والمرشد بأن يكفيهم ما هم فيه من العنت والتعب) (ص350). والرواية بهذا ترمز إلى نشاط مؤسسات الإسلام الحركي التي امتدّت في زمنٍ ما نحو كل مجال من مجالات حياة الإنسان اليومية. هذا النشاط الذي أعطى تيار الظهيري - حسب رأي الرواية- فرصة لزرع فكره في الناس، ليرتدّ فيما بعد إلى الناس والمجتمع على شكل إرهاب وتخريب وتدمير. وهو ما يظهر في ختام الرواية من خلال قيام الطلاب بتخريب المدرسة وقذف مخالفيهم بالحجارة.
ويرمز الأستاذ العسجد للتيار التنويري الحرّ الذي يتلقّى - حسب الرواية - التهم والصفعات من عامة الناس، كاتهامه بالعلمانية في اجتماع منسوبي المدرسة (ص229)، أو حتى استباحة دمه، مثلما يحدث له في مكتبة المدرسة عندما وجد تلميذه الذكي النجيب (المتديّن حديثاً) يقوم بتنظيف المكتبة بتكليف من جمعية التوعية الإسلامية، إذ يُغلِظ الطالبُ الكلامَ مع أستاذه ويأمره بصلف أن يعيد الكتاب مكانه، فيردّ الأستاذ مستاءً من لغة الأمر: (أمين المكتبة أنت؟ وماذا لو كنت وزيراً أو رئيس دولة؟) فيردّ الطالب: (لصلبتُك في الساحة العامة!!!) (ص306). واختيار المكتبة مكاناً لمثل هذا الحوار يدلّ على أن التشدّد الديني لا يتّخذ من الكتاب أداةً للمعرفة، بل سلاحاً لتكريس العنف والجهل.
وتدور جميع أحداث الرواية داخل أسوار المدرسة، حيث تبقى الأحداث محصورة في الحيز الزماني والمكاني للمدرسة، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى ذكورية جميع شخصيات الرواية. فتغيب المرأة تماماً عن ساحة الرواية، فلا تظهر لا في الحقيقة ولا في الحلم ولا في التذكّر والاسترجاع. ولا يرد ذكر للمرأة في الرواية إلا بوصفها حديثاً على لسان شخصيات ذكورية، كما يفعل الظهيري الذي يذكر لزملائه المدرّسين أوصافَ وجوه وبطون ونهود النساء بين آن وآخر (ص353)، أو كما يفعل العسجد الذي يتحدّث عن ظلم المرأة وحقوقها المسلوبة في أحد الفصول، في حين يتحدث الظهيري في الفصل المجاور عن حماية المرأة وصيانتها ووجوب احتشامها. (ص262-268). وهذا الغياب هو تجسيد - في نظر الرواية- لواقع المرأة المحلي، فالمرأة ليست (ذاتاً) تملك كينونة ووجوداً مستقلاً، بل هي (موضوع) (قد) يطرأ على بال الرجل أحياناً!!. وعدم حضورها على مستوى شخصيات الرواية قد يعني غيابها عن ساحة الفعل الحقيقي بوصفها عنصراً مؤثرا، فالمجتمع الذكوري لا ينظر إليها إلا بوصفها مصدراً للمتعة الجسدية، أو ساحة لاصطراع إيديولوجي بين رؤى اليمين واليسار.
ولاشك أن في الرواية الكثير مما يستحق الوقوف عنده إن في شكلها الفني أو أحداثها وأفكارها. ولكني حرصت في هذه السطور على التركيز في قضية الرواية ورؤيتها، وبالأخص ربطها الإرهاب والتطرّف بأسباب محلية داخلية. وهو ما يجعلني أدّعي بأن مثل هذا الربط بين الإرهاب والتعليم المحلي، أو الإرهاب والسلفية السعودية (الفكرية أو الحركية) هو - في ظني- خطأ فادح من صاحب الرواية أو غيره، و(ربما اصطياد في الماء العكِر من قِبل آخرين!!). ذلك أن الإرهاب فكرٌ وافد جاء من خارج أسوار البلاد، فمعظم - إن لم يكن كلّ- من انخرطوا في فكر التكفير والتفجير قد رضعوا ذلك من خلال احتكاكهم برموزه في الخارج، أو أفراخهم العاطلين في الداخل، وليس من خلال أستاذ أو منهج مدرسي أو علماء كما يحاول البعض أن يدّعي. إن توزيع التهم المجانية لتحميل التعليم أو مناهجه أو السلفية المحلية وِزرَ الإرهاب والتفجير والتدمير أمرٌ فيه الكثير من التجني والظلم، ذلك أن الجزم بذلك يحتاج إلى أدلة مادية حاسمة يُقنعِنا بها أولئك المدّعون بصحة ظنونهم. على أن مثل هذه الرؤية الروائية - برغم قسوتها - إلا أنها تؤكّد على حاجة بعض آليات التفكير السلفي إلى إعادة التقييم والترميم، لتنقيته من سلبياتٍ يستغلّها الآخرون لتحميله أوزار غيره.