قد تتشابه المشاعر في المواقف المتشابهة التي يمر بها شخصان أو أكثر، ولكننا إزاء تطابق، في الموقف والشعور معاً، بين شخصيتين إحداهما حقيقية والأخرى متخيلة، والشخصية الواقعية هي التي صنعت الشخصية المتخيلة، فلا نجد مندوحةً عن اعتبار الواقعية تمارس إسقاطات واضحة على المتخيلة، فهذه المتخيلة التي يمثلها فؤاد، الذي يحدِّثُ نفسه وهو يودع القاهرة، فيقول: (لماذا لا تكتب رواية عن القاهرة؟ رواية؟! ذات يوم سيجيء وقت الكتابة. أما الآن فهذا وقتُ الوداع)(1)
بينما الشخصية الواقعية/ الكاتب، يصف صعوبة الحديث الموجز عن القاهرة فيقول:(كيف أتحدَّث عن القاهرة من غير أن أكتب رواية ثانية؟ في القاهرة تفتحت عيناي على كلِّ الآفاق، وأبصرت كلَّ المشاهد، وامتلأتُ بكلِّ التجارب، في القاهرة، درست القانون)(2)
ويصف وداع القاهرة فيقول:(عندما ودَّعتُ القاهرة شعرتُ أني أترك خلفي أشياء ذهبيّة، أياماً لا تعود وذكريات لا تُنسى) (3)
فيجدُ القارئُ نفسَه إزاء إحالات بين البطل والكاتب، فالبطل يخطر له أن يكتب الرواية، ويقوم بذلك الكاتب، وهذا ما يوحي بأن الكاتب هو البطل في هذا الموقف على الأقل؟!.
ولنتأمل وحدة الشعور، عندما يتشابه الموقف، عند البطل والكاتب، فهذا شعور فؤاد عندما عاد إلى كلية الحقوق بعد تخرجه فيها:(شعر وهو يتجول في ردهات الكلية كما لو كان جاسوساً، أُرسلَ من جهة معادية، لمراقبة الطلاب، والطالبات، لم يعد يربطه بالكلية شيءٌ سوى الذكريات) (4) .
ويتشابه هذا الموقف والشعور مع موقف وشعور القصيبي عندما عاد سائحاً إلى كاليفورنيا، ومرَّ بجامعة جنوب كاليفورنيا التي درس فيها الماجستير، فيقول: (لم أعد أتحمَّل وطأة الغربة الخانقة، في مكانٍ قضيتُ فيها سنين من عمري، لا أُحسُّ بأي غربة. شعرتُ بأني جاسوس أو لص، أو طفيلي، وهربتُ دون أن أتلفَّت) (5)
وهاهو فؤاد يشعر بشيخوخة قلبه وهو في الحادية والعشرين، فيقول: (وجاءت تجارب ، ليس هذا مجال ذكرها، فيها ما يُسعد، وفيها ما يوجع، تركتني في الحادية والعشرين، أشعر أنني أحملُ قلباً مرهقاً بالشيخوخة، وبالأحداث) (6)
ويمكن تلمُّس هذا الشعور في بيتي شعر سمعتهما منه الدكتور غازي القصيبي في لقاء تلفزيوني، قال: (قلت وأنا في مطلع العشرينيات:
الشعرات السود في مفرقي
تحجبُ عنكِ الخافقَ الأشيبا
والشمسُ في الأفق لكنني
ألمحُ خلف المشرقِ المغربا
ولا تخفى وحدة الشعور، غير الطبيعي في مرحلة مبكرة من حياة الكاتب، والبطل على حدٍ سواء..
وكذا الانتماءات القومية التي يشير إليها الدكتور القصيبي في سيرته الشعرية،بقوله: (شأن معظم الفتيان العرب، في تلك السن، كنتُ متحمساً لموجة القومية العربية، التي اتخذت شكل الناصرية) (7) ويتحدث القصيبي عن نفسه فيقول: (أعجب في سن السادسة عشرة بقائد ثوري، هو جمال عبد الناصر، أعلن عن نيته في إقامة دولة عربية جديدة على أنقاض الماضي) (8)
والانتماء نفسه وفي العمر نفسه نجده لدى فؤاد الطارف، حين يشتكي التعقيدات التي سيواجهها في مطار القاهرة فيقول: (خطر بباله أنه من المستحيل، أن يكون جمال عبد الناصر، على علم بهذه التعقيدات التي تنتظر صغار الناصريين العرب في مطار القاهرة) (9)
ويترك السفر إلى القاهرة الآثار نفسها لدى الدكتور القصيبي، تلك الآثار التي يعبر عنها بقوله: (كما أن الانتقال إلى القاهرة كان على المستوى الشخصي صدمة نفسية أحدثت أثاراً بعيدة المدى، لأول مرة في حياتي أترك أمن البيت وحنانه لأضرب بمفردي في أعماق عالمٍ غريب) (10)
ويتحدث فؤاد عن الخواطر التي تنتابه، وهو يتوجس مغامرة السفر بمفرده، لأول مرة: (أما هو فهذه سفرته الأولى بمفرده، في المرات السابقة، كان هناك شخصٌ أكبر منه يتولى ترتيبات السفر..ولكنه الآن وحيد..) (11)
علامات متقاطعة في الشخصيتين
ونجد الكاتب والبطل يعانيان من عدم إجادة لغة أخرى غير الإنجليزية، برغم محاولة فؤاد تعلم الفرنسية، باعتبارها من متطلبات الدراسة في كلية الحقوق، ولكنها محاولة باءت بالفشل: (سرعان ما اكتشف فؤاد وعبد الكريم أن أملهما في أن يتعلما الفرنسية لا يختلف في درجة واقعيته عن تطلع إبليس إلى دخول الجنة) (12)
وهذا ما يشكوه القصيبي في سيرته الشعرية، ويعتبره من الثغرات في تكوينه الثقافي: (لا أتقن من اللغات الأجنبية إلا الإنجليزية، وما يسببه هذا الجهل من قصور في الثقافة أمرٌ لا يحتاج إلى بيان) (13)
ونجد القصيبي في سيرته الشعرية يشير إلى العلاقة بين أسرته والأسرة الحاكمة في البحرين، ويصفها بالوطيدة. (14)
ويقترح والد فؤاد: (أن يذهب للسلام على الحاكم الشيخ سلمان) (15) و (رحب الشيخ بهم ترحيباً حاراً) (16)
ومع الاختلاف في الاتجاه الأدبي بين البطل/ فؤاد/ كاتب القصة، والكاتب/القصيبي/ الشاعر، فإن هناك إيماءات توحي بأن الكاتب قصد منها فصل واقع الكاتب الشعري المعروف، عن عالم البطل الأدبي، وتوظيف انعكاسات موهبة البطل الأدبية في النص الروائي لاستثمار نتائج الكتابة القصصية، وتحميلها مضامين قصصية، ينفذ منها إلى البوح بانفعالات الفتى الموهوب، مضحياً بعدد من القصص، كتبها المؤلف منسوبةً للبطل، وصديقه عبدالرؤوف، في حين لا يستطيع التضحية بقصائد تلك المرحلة، وخاصة أن أكثرها قد نُشر في ديوان جزائر اللؤلؤ، ويؤيد ذلك أننا نجد صديقه عبد الكريم يحثُّه على أن يكتب الأغاني لصديقته المطربة، (شاهيناز) فسأله: (لماذا لا تؤلف لها أغانيها؟ ألستَ أديباً؟) (17). ومثل هذا الطلب لا يُطلب إلا من شاعر، ولم يسبق الإشارة إلى أيِّ محاولة شعرية لفؤاد..
كما أن القصيبي نفسه يُقرُّ بمحاولاته القصصية والروائية، في وقتٍ مبكر (لي محاولات قصصية عديدة نشرت منذ سنين طويلة، بعضها بأسماء مستعارة، وبعضها باسمي الحقيقي، وبعضها لا يزال ينتظر الفرج) (18)
ويقول القصيبي في موضعٍ آخر: (كنتُ في العشرين عندما كتبت روايتي الأول..(حدثَ ذات صيف) كانت صفحاتها تتجاوز المئة، وكانت تسجِّل بأمانة، أحداث تجربة شخصية عاصفة، لم يهمني أن أسمع رأي القراء أو النقاد، كتبتها لنفسي. ولم يقرأها سوى ثلاثة أصدقاء، كان لكل منهم دورٌ كبير أو صغير في أحداثها، ثم اختفت الرواية، لا أدري أين ذهبت) (19) .
كما نجد أن فؤاد يُشارك في أمسية أدبية مع الشاعرين: سليمان العيسى، وأحمد عبد المعطي حجازي، وبينما يلقيان الشعر يلقي فؤاد قصة (20) ، وهذا وإن كان ممكناً، إلا أنه قرينة على أن الاتجاه الأدبي الحقيقي للبطل- على افتراض حدوث ذلك - هو الشعر وليس القصة..
ومن التقاطعات في السياق الأدبي بين قصص البطل/ فؤاد، وديوان الكاتب/القصيبي، الحيرة التي واكبت البحث عن عنوان، ففي سيرته الشعرية يقول القصيبي: (بعد ذلك نشأت مشكلة غير متوقعة، فيما يتعلق باسم الديوان، كنت أود أن أسميه ( ليالي الصبا )... فكرتُ جدياً في أن أسمي الديوان (أغاني الصبا ) غير أن الشاعرة المصرية ملك عبد العزيز سبقتني إلى هذه التسمية.. بعد ذلك فكرت أن أسمي الديوان (شباب) لكنني صرفتُ النظر عن هذه التسمية، بعد صدور ديوان للدكتور عبد القادر القط يحمل عنواناً مشابها هو: (ذكريات شباب) بقي العنوان مشكلة دون حل بضعة أسابيع حتى اقترح الشاعر الصديق ناصر أبو حميد عنوان: (أشعار من جزائر اللؤلؤ)) (21).
وفيما يشبه هذه الحيرة يأتي الحوار بين فؤاد وعبدالرؤوف حول عنوان المجموعة القصصية المشتركة:
- عبدالرؤوف: والاسم؟ نريد اسماً يلفت الأنظار. اسماً يجمع بين مصر والبحرين.
- فكرة طريفة ثانية..
- أهرام المنامة..
- لا، ولا منامة الأهرام!
- نيل دلمون؟
- لحظة! لحظة! دلمون! ورقة من بُردى دلمون! ما رأيك؟
-(ورقة من بُردى دلمون) قنبلة الموسم) (22)
كما أن ميلاد المجموعة القصصية المشتركة لفؤاد وعبدالرؤوف يتفق زمانياً، مع صدور الديوان الأول ( أشعار من جزائر اللؤلؤ) وذلك أن كليهما صدر سنة 1960م، يقول القصيبي:(طبعت الديوان في بيروت، سنة 1960م...استُقبل الديوان بحرارة وكتبت عنه عدة مقالات نقدية كانت - في مجملها - مليئة بالثناء) (23)
وفي بداية الفصل الخامس عشر سبتمبر وأكتوبر 1960م جاء في الرواية: (لقيت المجموعة القصصية ترحيباً حاراً من الوسط الأدبي..) (24)
(كنتُ في العشرين حين أصدرتُ ديواني الأول أشعار من جزائر اللؤلؤ.. ورحَّبَ به الدكتور عبد القادر القط، وأثنى عليه الدكتور شكري عياد، واستقبلني الأستاذ عباس محمود العقاد في مقر لجنة الشعر هاشاً باشاً) (25)
بينما في الرواية يكتب عن استقبال المجموعة القصصية فيقول: (لقيت المجموعة القصصية ترحيباً حاراً من الوسط الأدبي، كتب الدكتور شكري عياد، مقالاً عنها في مجلة نادي القصة، وتحدث عنها الدكتور عبد القادر القط في برنامجه الإذاعي الأسبوعي. وأثنى عليها الأستاذ صالح جودت... وجاءت المفاجأة الكبرى الثانية في الشهر نفسه: مقابلة عباس محمود العقاد) (26)
وختاماً..
فإن هذه التقاطعات الزمانية، والشخصية، والدرامية بين حياة الكاتب والبطل، تؤيد إلى حدٍ كبير فرضية امتزاج سيرة الكاتب بسيرة البطل في شقة الحرية، في المواطن التي تمت الإشارة إليها خلال هذه القراءة على أقل تقدير.
****
الهوامش
(1) شقة الحرية، ص (462)، مرجع سابق.
(2) سيرة شعرية، ج2، غازي عبد الرحمن القصيبي، ط1، مطبوعات تهامة، 1996م،ص (69).
(3) السابق، ص (80).
(4) شقة الحرية، ص (460)، مرجع سابق.
(5) العودة سائحاً إلى كاليفورنيا، غازي عبد الرحمن القصيبي، دار الساقي، ط3، 1999م، ص(60).
(6) شقة الحرية، ص (369)، مرجع سابق.
(7) سيرة شعرية ج1، غازي عبد الرحمن القصيبي، ط2، مطبوعات تهامة، جدة، 1988م، ص(56).
(8) العولمة والهوية الوطنية، غازي عبد الرحمن القصيبي، ط2، 2002م، مكتبة العبيكان، ص ( 15).
(9) شقة الحرية، ص (25)، مرجع سابق.
(10) سيرة شعريةج1، ص (49)، مرجع سابق.
(11) شقة الحرية، ص (18)، مرجع سابق.
(12) السابق، ص (282).
(13) سيرة شعريةج1،ص (49)، مرجع سابق.
(14) السابق، ص (26).
(15) شقة الحرية، ص (192)، مرجع سابق.
(16) السابق، ص (192).
(17) السابق، ص (161).
(18) صوت من الخليج، غازي عبد الرحمن القصيبي، ط1، 1997م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص ( 81).
(19) الخليج يتحدث شعراً ونثراً، غازي عبد الرحمن القصيبي، ط1، 1997م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، ص (351).
(20) شقة الحرية، ص. ص (359- 360)، مرجع سابق.
(21) سيرة شعريةج1، ص (55)، مرجع سابق.
(22) شقة الحرية، ص .ص (244،245)، مرجع سابق.
(23) سيرة شعريةج1، ص (55)، مرجع سابق.
(24) شقة الحرية، ص (329)، مرجع سابق.
(25) الخليج يتحدث شعراً ونثراً، ص (351)، مرجع سابق.
(26) شقة الحرية، ص. ص (329- 332)، مرجع سابق.