وشعر عبدالله الزيد في الرثاء نابع من ذات تنضح أسى وألماً لفقد عزيز من الأقرباء والأصدقاء، وهذا النوع من الرثاء هو ما ينضوي تحت الوجدانية الحقيقية والشك في المصداقية الشعورية له ضرب من المغالطة، فهو من أنبل العواطف الإنسانية، وما يثير أشكالاً في هذه التجربة ليس الحزن لذاته وإنما الرغبة الملحة إلى التغلغل في الحزن والانصهار به، ولعل المآتم العميقة في حياة الشاعر حفرت في نفسه أخاديد الأسى حتى جعلت الحزن يتولى معظم تجربته الشعرية.
أما في غرض التأمل فالشاعر كثير التأمل، ومن تأمله: تأمل النفس والزمن وأثره في الإنسان، يأتي ذلك في قصيدته: (يا زمن القهر.. ارتديتك مارداً) يقول فيها:
متكلّسة..
خطواتك
يا زمني الراكد..
يا سجني
وأنا
عنوانٌ
أمطره القدم الآفل في شفقي..
ومن تأمل الشاعر تأمله لحال المسلمين وما يحل بهم من الحروب وما يقع فيها من الأبرياء ضحية العدوان الغاشم، فقد أهدى قصيدة إلى كل الأحبة في (سراييفو) وما حولها في قصيدة: (حوارية الفارس الموتور من قلب الشروط) تجلت فيها الروح الإيمانية، فلا يأس من روح الله، ولكن هذا الزمن بما فيه من التخاذل واليأس يصيب من فيه بالقنوط، يقول:
- لا تيأسوا من روحه
- لكنه زمن القنوط
زمن التخاذل والتجني..
وارتياد المقت في رهق السقوط..
ويبتهل إلى الله بالدعاء فيقول:
يا ربنا..
يا حبنا
يا من صدقت الوعد للمستبشرين..
وهزمت أحزاب الظلام الظالمين..
وشكرت سعي المتقين..
ويظهر الشاعر رغم تلك الأحداث المؤلمة متفائلا لا ييأس، ومتحليا بالصبر والاستبشار والعزم، يختم قصيدته بذلك:
لا تيأسوا من روحه..
لا فأل يحتمل القنوط..
لا بشر يوثقه السقوط
لا عزم توقفه الشروط..
أما الشكوى فتنبعث من الشاعر بعد أن أثقلته المواجع، وأحاطت به الهواجس التي لا تنتهي، والمكان أحاط به وانغلق عليه كالمحارة التي تحبسه وتعذبه، يقول:
هذا اختيالي مثقل بمواجعي
ومباهجي ريانة التقطيب
هذه الهواجس ما لها لا تنتهي؟
ما للأسى مستغرق بغروبي
أمسي فلا خيط الضياء أعادني
للوجد والأشعار لا تهذي بي
أغدو فلا وشل يلوح لغلتي
ومواردي موصولة بنضوبي
حولي الزمان مغارب لا تنتهي
حولي المكان محارة التعذيب
وفي بناء القصيدة يهتم الشاعر كثيرا باختيار العنوان، ومما يلفت النظر في ذلك هو التمدد في عناوين القصائد والدواوين، وهذا مما يدل دلالة بينة على الرغبة في التميز والهرب من العادية والتسطح.
والعنوان لديه مشحون بالصور الفنية الرائعة التي تمثل قصيدة رائعة حتى إنه لو كتب تحت مقالة لظن القارئ أنه مقطع من قصيدة حيث إن العنوان يأتي موزونا سليم الإيقاع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن دلالة العنوان تخترق الذات الشاعرة لدى الشاعر عبدالله الزيد، ويتضح ذلك من خلال عناوين مجموعاته الثلاث:
- من غربة الشكوى.. يسري كتاب الوجد.. يتلو سراج الروح.
- انبسطت أكف الرفاق.. بقي الجمر في قبضتي.. أغني وحيدا.
- مشرع برحيق الذهول.. يهطل الوجد بالمستحيل.
من تجديد الشعراء في العصر الحديث اهتمامهم بمقدمات القصائد، وتمثل المقدمة لديهم مدخلا إلى القصيدة، وتتعدد أنواع المقدمات ومنها: المقدمة: المناسبة، والإهداء، والاختزال، والمدخل، والتضمين، والإبداع، والرمز، والإيحاء، وغيرها مما لم يكن متوافرا في الشعر القديم.
واهتم الشاعر عبدالله الزيد بمقدمات قصائده، واشتملت على الإبداع الجميل ومنها: المقدمة المناسبة، مثل (إلى رفيق المرحلة الإذاعية صالح السويدان الذي شكل بمغادرته موسما من مواسم كآبتي الفنية) في قصيدة: من عزلتي أوصي بي القتال) فقوله: شكل بمغادرته موسما من مواسم كآبتي الفنية) يشكل وحده إبداعا ويترك لكل حرية في الخيال تحاول من خلالها اجتلاء الكآبة الفنية.
ومن مقدماته: المقدمة الإهداء، وهي كثيرة عنده ومنها: (إهداء إلى كل الأحبة في (سراييفو) وما حولها..) في قصيدة: (حوارية الفارس الموتور من قلب الشروط).
ومن مقدماته: المقدمة الإيحاء مثل: (إلى كل من أحس بمجانيته بين أهله وذويه وأطبقت الكآبة على منابت إبداعه) في قصيدة: (لحظة أن يبدأ زمن ارتحالي من الداخل) فقد أوحت تلك المقدمة بالغربة الروحية.. غربة المبدع وغربة (من حس بمجانيته).
ويهتم الشاعر أيضا بمطلع القصيدة، وكثيرا ما يشعر مطلع القصيدة لديه بمضمونها، وكثيرا ما يبدأ قصيدته بالاستفهام وخطاب الآخر، ومن ذلك مطلع قصيدته: (جدارية.. لدمع ببال الأسى) الرثائية، فهو في مطلعها يبدأ بالنداء مخاطبا هاتف الفجر:
يا هاتف الفجر: ما للفجر أخلفني
وحل بي عتم في كونه عتم
ومن خلال هذا الاستفهام يتضح ألم الشاعر وحزنه الذي حل عليه ظلاما تاه فيه، وتأتي الأبيات بعد ذلك مفصلة لتلك الأحزان والآلام.
وخاتمة القصيدة تشعر بالنهاية، فقد ختم تلك القصيدة قائلا:
يا راحلا بحميم الود معذرة
إن ند من شفة الإفصاح ما يصم
الشعر من خطرات الأين منشطر
والبوح من سكرات الصمت مختتم
بهذا النداء للمرثي، وبالتقسيم الرائع في البيت الأخير يختتم الشاعر قصيدته، ويأتي التوازي بين الشطر الأول والشطر الثاني من البيت الأخير ليضيف شيئا من الجمال لهذه القصيدة.
ومن تجديد الشاعر عبدالله الزيد في بناء القصيدة بناؤها على الحوار، واستوحى ذلك من فن المسرحية القائم على الحوار، كما في قصيدة (حوارية الفارس الموتور من قلب الشروط) ويقوم بناء القصيدة على ذلك الحوار بين شخصين ويتردد في القصيدة، يقول:
- لا تيأسوا من روحه
- لكنه زمن القنوط
وفي بناء بعض القصائد يعمد إلى تقسيم الأبيات ويعنون لكل مجموعة منها كما في قصيدة: (عندما يكتفي الساحل الأبدي بصمت العباب)، فقد قسم تلك القصيدة إلى خمسة أقسام وعنوان لكل قسم كالآتي:
استحضار:
أغنية:
شجن:
صوت (1):
صوت (2):
وألفاظ الشاعر في مجملها واضحة لا غموض فيها، ومن الألفاظ التي وردت في كثير من قصائده: (أورق) وما دارت عليه من اشتقاقات: (مورق، المورقات، أورقت) وربما يرددها الشاعر موحيا لنفسه بالتفاؤل، لما يحمل معنى الكلمة من التجدد والاجتماع.
والشارع له منهج خاص في التعامل اللغوي (النسيج اللغوي) وذلك عبر إلحاحه على سلسلة المصادر والصفات المطلقة، وتسلسل الأحوال والأخبار في موجات إيقاعية متلاحقة يحققها الالتفات بمدد جديد، وصيغ اسم الفاعل التي تنتشر في القصيدة تعبيرا عن فعالية الذات، ومن ذلك قوله:
مشرقٌ..
في شميم الأفق..
مورق..
بالذي يصطفيك..
ومنطلقٌ..
من لذيذ الغسق..
بالذي يفتديك.
وتأتي: (لغة الجسد ولغة الشعر) توجها وجدانيا يتضح عند الشاعر كما في قصيدة: (المسافة مسألتي) التي تكشف نهج الشاعر في تعامله مع التجربة، فهو يمزج بين الجسد واللغة، والعشق واللغة، ويتضح ذلك من نزوحه إلى الخلاص من الرؤية التعبيرية، وينشغل بمسألة التشكيل حين يستهل قصيدته بالمزج من الإيقاع والشفة والشهقة والتكوين في اللغة، مما يوحي بالتداخل بين لغة الجسد ولغة الشعر يقول:
صلي على شفة الإيقاع يا شفتي
يا شهقة الفتح والتكوين في لغتي
ولا يسلم الشاعر من ظاهرة التكرار لبعض الألفاظ والتراكيب، فمن الألفاظ التي كررها: (الظهيرة) كررها ثماني مرات، ولكنه تكرار مفيد حيث دل على معان مختلفة: (شكل الظهيرة، لون الظهيرة، مداد الظهيرة، طعم الظهيرة).
ومن التراكيب المكررة أيضا: (لا تيأسوا من روحه) كرره عشر مرات في مواضع متفرقة من قصيدة: (حوارية الفارس الموتور من قلب الشروط) وهو تكرار استدعته القصيدة.
والشاعر في جملة يزاوج بين الجمل الاسمية والجمل الفعلية، وقد تغلب الجمل الفعلية لتدل على عاطفة الشاعر المتحركة التي لا تستقر على حال كما في قصيدته: (من غربة الشكوى.. يسري كتاب الوجد.. يتلو سراج الروح) حيث غلبت فيها الجمل الفعلية.
والشاعر في الرثاء تغلب عنده الجمل الفعلية، كما في القصيدة التي رثى فيها أخاه محمدا: (وجع المسافة بين دمك وثلاجة الموتى).
وتغلب الجمل الخبرية في الرثاء أيضا على الجمل الإنشائية، فالشاعر يتحدث عن الفقيد، وعن حالته بعده فيأتي بالخبر ويغلبه على الإنشاء الذي يأتي بالتعجب غالبا من حال الفراق والموت، اتضح ذلك في القصيدة السابقة.
وتغلب الجمل الخبرية في الشكوى لدى الشاعر أيضا كما في قصيدة: (أجيء من ضائقة الركون.. أقول للتداخلات..).
ومن مصادر الصورة عند الشاعر عبدالله الزيد: الوجدان، ووجدانه مما يميز تجربته الشعرية، وحزنه وشعوره بالغربة شكل مصدرا مهما من مصادر الصورة لديه ومنها قوله:
ما لكم:
ولأحزاني المفزعة..؟
والكون العلوي يشكل مصدرا من مصادر الصورة لديه يقول:
والسماء..
قطعت أنت خيوطها..
ومثله الكون السفلي يقول:
تستغيث بماء الشعيب الخصيب.
ومن مصادره: المصدر الحربي، كما في قوله:
وأنت في طغيانك المحموم تمتمة الهزيمة..
ومن أنماط الصورة وأنواعها لدى الشاعر: الصورة الحقيقية، وهي قليلة ومنها قوله:
زرت الطبيب..
لأن أصبعا من أصابعي الباردة..
مر بالنار في لحظة شاردة.
ومنها التشبيه، ولا يعتمد عليه الشاعر كثيرا، وربما شبه نفسه بشيء، كقوله مشبها نفسه بخيال الضوء:
فجئت مثل خيال الضوء.. يذرعني
ما كنت أذرعه في بدء تفسيري
ومن أنماط الصورة لديه: الاستعارة وهي كثيرة لديه ومنها قوله:
إذا راهنتك الفيافي..
حيث جعل الفيافي كإنسان يراهن، على سبيل الاستعارة المكنية.
ويمكن أن تعد الصور السابقة صورا جزئية، وللشاعر صور كلية، منها قوله:
الله أكبر! عاد الوجد يسرجني
بطيب عشق على الأحشاء منثور
الله أكبر! هذا النور سجرني
بعبرة أشعلت حسي بتفكيري