للشاعر والناقد حامد بن عقيل آراء جريئة وصريحة في الامور والمواضيع الثقافية (شغله الشاغل ) تحدثنا معا كثيرا فتشعب الحديث ليكون حوارا للنشر.. إذاً دعونا نحاوره:
* في حوار سابق لك قلت: يؤرقني أن أمتلك أداة تعبير خلاقة أحترمها ككاتب.. ألا يعني هذا أنك مع النص المفتوح؟.
- لا أدري إن كان أسلوب التعبير، الذي هو الشِعر، له علاقة بكون النّص الأدبي مفتوحاً أو العكس. لديّ قناعة أن الزمان في الشعر عامل وهمي ومنه يمكن خلق التشتت أو العماء الفني، أو حتى التكرارية، وكل هذه الظواهر على صعيد تفكيكي بحت هي ما يضمن للنص بقاءه على المدى البعيد، لذا أنا مع النص المفتوح. أيضاً، كل ما عنيته بقولي: (يؤرقني أن أمتلك أداة تعبير خلاقة أحترمها ككاتب، وينظر لها المتلقي بإجلال)، هو أني كشاعر لا أمتلك مفهوماً محددّاً للشعر، وكذلك المتلقي، لكنني أفترض دخولي مع قارئي اتفاقاً ضمنياً لا يتطرق لماهية الشعر. وهنا أدرك أن على الشاعر أن يسعى لامتلاك الرؤية وأن يغامر في سبيل الإيحاء بالفكرة. الرؤية وطن المستقبل، والمستقبل غيب لا يلجه من يتمسح باللغة فقط دون أن ينظر إلى مكوناتها الزمانية. لا بد من التأمل العميق وامتلاك البعد الفلسفي لكتابة الشعر.
* لا ماهية للشعر إذن؟
- ربّ إني كنتُ لا أدري!. في حوار سابق قلتُ: (ما الشِعر؟)، سؤال ألقاه الأستاذ الجامعي على طلابه الممتلئين يقينًا في سنتهم الجامعيّة الأولى. فلم يطل الصمت، لأن تعريف الأدب، والشِعر تحديدًا، حاضر لا يغيب عن أذهان طلاب نابهين: (هو الكلام الجميل، الصادر عن..)، ولم يقطع هذا الفيض إلا فرقعة مدوِّية لسؤالٍ آخر حاصر به الأستاذ طلابه: (الجميل؟!، هل يعني ذلك أنه الكلام المتبرّج؟!). فساد الصمتُ عندئذٍ، وتلاشى اليقين.
في تلك القاعة، رأيتُ السؤال يتصاعد كبخار حار ويتكور في زاوية القاعة، وعلى مرّ سنوات الدراسة الجامعية، وعلى امتداد كتبها وقاعاتها وأساتذتها، وعلى الرغم من تحول السؤال إلى غيمة تظلّ روحي ببرودتها، إلا أنني لا أتذكر أن ماءً محسوسًا هطلَ، كما لا أتذكر أن عطشي، وعطش أصدقائي أيضًا، قد أطفأه تعريفٌ متّفقٌ عليه لهذا الكائن اللغوي الموسوم ب(الشِعر).
كلّما عبرتُ العمر متقدماً باتجاه الحكمة فقدتُ الأثر.
* تزاوج بين نص التفعيلة و النثر، ما سر هذا الاختيار ونحن نرى أن هناك انجرافا كبيرا نحو قصيدة النثر وشبه طلاق و تغييب لكثير من الإصدارات لقصيدة التفعيلة أو العمودية؟
- لستُ ضد قصيدة النثر بل ضد امتهان كتابة الشِعر بهذه الطريقة التي جعلته، في كثير من التجارب النثرية، أشبه بخواطر طلاب مدارس التعليم العام. سأستمر في تجريب كتابة قصيدة النثر، دون أن أتعجل الخوض بالكامل في فن لم يمتلك تقاليده الكتابية بعد.
* بعد ثلاثة دواوين شعرية.. أين تقف تجربتك الآن؟ وما الذي يؤرق سؤالك الشعري؟.
- لا زالت التجربة، ولكن ما يؤرقني فعلاً هو أن أدرك الفرق بين الجمالي وبين المعرفي، فما أخشاه هو أن يتحول شعري إلى إشارية تهتم بالإبلاغ وليس التأثير. تماهي النَّص الشعري مع السياقات الجمالية والمعرفية للغة التي يُكتب بها هو ما يحدّد جودته من عدمها. فالجمالي في الشِعر يتمثّل في المفردة الشِعرية، جماليتها داخل السياق الذي ينتظمها، وكذلك قدرتها كدال على إنتاج المعنى دون أن تكون فائضاً لا يخلق زيادة لفظية لا حاجة للنّص بها فحسب، بل قد تؤدي إلى التأثير سلباً في معناه العام. أما المعرفي فوجود ضروري لخلق التأثير في المتلقي، وحينما يتعلق السياق المعرفي بقضايا عامّة فلابد أن يهدف إلى التأثير وليس إلى الإبلاغ، إذا لا يمكن أن يكون الالتزام في الشِعر عامل ضعف إلا حينما يتعارض مع وظيفة من أهم وظائف الشِعر ممثلة في التأثير والإمتاع. فما دام الشاعر قادرًا على توظيف الجمالي، ممثلاً في اللغة، في سبيل إنتاج المعنى، ممثلاً في المعرفة الملتزمة المؤثرة لا الإخبارية، فإنه بذلك يخلق فضاؤه الشِعري الأرحب، بعيداً عن إشكالية موجودة في مختلف الفنون وتتمحور حول قبول أو رفض الالتزام في الفن.
هناك فرق في استخدامات اللغة، فالإشارية تريد أن تحيلنا إلى حدث محدّد في الواقع، أي أنها وسيلة ناقلة للمعنى، بينما اللغة الشعرية تريد أن تكون هي الغاية كرسالة، وليست وسيلة ناقلة حتى وإن اشتملت على المعنى. إنها فكرة تبتعد كثيراً عن محددات ظاهرة لضغط الرؤية في مفردات قليلة أو بسطها في كمّ وافر من المفردات. ما دام هناك معنى يتآزر الشكل الجمالي في تأسيسه فثمّة شِعر. يهدم الشكل الجمالي في الشعر كل مفردة لا تضيف جديداً وتحيل إلى مدلول قد يشكل فائضاً في المعنى الإيحائي للنص، وقد يصل السوء في الشعر، أحياناً، إلى درجة أن يشكّل فائض المعنى، الذي تحمله مفردة ما، عاملاً للتشويش على المعنى العام للنّص الشِعري. حين أقف أمام نصٍ شعري فإنني أبحث عما هو أبعد من الشكل الظاهر، وصولاً إلى رسائله الضمنية التي تحدد مغزاه في نهاية الأمر. مع وجوب أن أدرك أن مغزى النص الذي أنا في مواجهته ليس نهائياً، لأنه يمثّل قدرة موسوعتي اللغوية والمعرفية في استنطاقه، بينما قد يأتي متلقٍ آخر، بموسوعة مختلفة بالضرورة، ليجد في النَّص معنى آخر يتفق مع حقيقة أن الشعر، وخصوصاً الحديث، متعدد المعنى. إنه أرق فنّي لا يريد التحوّل إلى سؤال حول الإيديولوجيات أو الالتزام في الفن.
* التفكير في التجريب أسقط الكثير من النصوص الإبداعية في فوضى، يراها البعض تنشغل باللغة على حساب الصورة الفنية، برأيك هل وفق حامد بن عقيل في هذا الرهان؟.
- لا بد من التجريب، ولكن التنظير الذي يريد توجيه بوصلة التجريب قد يقتل الكثير مما يمكن أن يقال شعرا بعفوية وعمق. بالنسبة لي، التجربة التنظيرية على مستوى التصدير، كناقد، حديثة جدا ولا يمكن تتبع أثرها الآن في نصوصي، يحتاج الأمر إلى وقت كاف لمعرفة ذلك، بينما على مستوى التلقي، كقارئ للنظريات النقدية، فأنا حريص على ألا أفقد شيئاً من العفوية، الشعراء يأتون أولا ثم المنظرون. ولدي أن المعنى بلورة للذات الإنسانية، شيء سابق على الفعل الشعري ودافع للكتابة التي لا بد أن تكون سابقة للنظرية بالضرورة.
* هل نحن في عصر القارئ؟
- لا بد أن نكون في عصر القارئ، ولا بد أن يمتلك القارئ مجموع النظريات التي تهتم بدوره كعنصر فعّال في تناول النص وعملية التحليل والتأويل والإدراك والسرد والقص. فالنّص الأدبي يكون مُصاحباً ضمنياً بنص آخر يخفيه، والقارئ وحده يستطيع أن يبرزه. وفي هذه المضاعفة يكمن التعدد الدلالي الخاص بالأدب، فما لا يقوله النَّص، وما لا يظهره يشكّل «البنية المبدعة للإمكانيات» التي ترتكز عليها الحرية التأويلية للذات المتلقية. المؤسف في الوطن العربي أن أدواتِ التلقي التقليدية لا زالت هي الفاعلة في مواجهة النصوص الأدبية، أو هكذا أراد لها القائمون على تعليم الأدب في مدارسنا وجامعاتنا. ومع عجز هذه الأدوات عن الذهاب عميقاً في سبيل فهم مغزى النص الأدبي، إلا أنها لا تزال، أيضاً، هي أدوات التلقي التي تُدرّس. وهي، رغم ما أحاط بها من اهتمام في تراثنا العربي، تركّز غالباً على الشكل دون المضمون، وتصف ظاهر النّص لا ما تحيل إليه لغته من معان ودلالات، وتنظر للنص الأدبي بوصفه لغةً لا تقبل الإحالة إلى معنى خارج ما يمثله الشكل. فكانت فنون البلاغة العربية من جناس وطباق وتورية، إلى غير ذلك، هي الطريقة السائدة في أي حوار يحدث مع النص الأدبي. سيصدر قريباً كتابي النقدي الثاني والمعنون ب(عصر القارئ)، آملاً أن يفتح نافذة على تلقي القراء للنص الأدبي، وأن يبين الحاجة الملحّة إلى أن يهتم النقاد بتطوير أدوات القراء، بدلاً من ممارسة دور الوسيط في شرح وترجمة النصوص الحداثية، كما أرجو أن يُسلِّطُ هذا الكتابُ الضوءَ على أهمية أن يتحول التأثر النقدي بالنظريات الحديثة للتلقي جهة التطبيق النقدي الذي يقدم للقراء الأدوات النقدية مع تطبيقاتها في سبيل الارتقاء بمستوى الممارسات الخاصة بتلقّي النصوص، بدلاً من التركيز كثيراً على التنظير الذي لن يُدخل عملية إنتاج وتلقي النص الأدبي الحداثي (عصر القارئ)، بل سيبقيه في الدائرة الضيقة للتّلقي ممثلة في دائرة النقاد فحسب.
* مر معرض الرياض، كمثقف سعودي، هل نجح المعرض في إقناعك أن سوق الكتاب في السعودية بخير؟
- القارئ السعودي بخير، والكتاب السعودي بخير، لكن معارض الكتب الرسمية في السعودية ليست أكثر من سوق سوداء تشرف عليها وزارة الثقافة بدأب ومثابرة، آمل لهم التوفيق حتى تصبح سوقا أكثر سواداً فينتفع بها الجميع إلا اثنين؛ المبدع السعودي والمتلقي.
* أنت ترى أن السرد السعودي في كثير من إنتاجه هو اجترار، برأيك، أين يقع الخلل؟
- اختلف الأمر الآن، وبعيداً عن الأسماء المكرَّسة رسميّاً، يوجد لدينا سرد روائي مدهش.
*وعدم ترشيح أي عمل سعودي لجائزة بوكر العربية؟ ألا يدل على ضعف الرواية السعودية؟
- عدم ترشيح أي عمل سعودي ليس مشكلة، كما أنه ليس دالاً على عدم استحقاق أدبنا الروائي للاحترام، لكل جائزة ضوابطها وظروفها، والسعودية ليست الوحيدة التي لم يُرشّح منها عمل ضمن الأعمال التي وصلت للقائمة النهائية للجائزة. قبل سنوات قليلة كنتُ أثق في أن رواياتنا المميزة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، لكن الأمر اختلف الآن، وأجد في إصدارات الشباب التي قرأتها أعمالاً تخرجنا من مرحلة البدايات إلى مرحلة النضج الفني الكامل.
* في كثير من البلدان العربية يبدو المثقف في خلاف مع المؤسسة الثقافية التي تضع السلطة يدها عليها والتي من المفترض أن تمنح له حضنا ودعما، في السعودية يبدو حجم الرقابة مهولا كما يتصور الكثير من المتابعين، هل لك أن تقرب لنا علاقة المثقف بالسلطة في السعودية ؟
- الرقابة!، هذه المفردة التي تشبه المطاط، في معارض الكتاب تتسع لكل شيء، وحين ينفضّ السامر لا تعود قادرة على استيعاب أكثر من حروف الجر!. باختصار؛ أرى أن المؤسسة الرسمية في السعودية وجدت لأهداف ليس من بينها خدمة الإبداع، ولا دعم الكتاب، ولا إيجاد علاقة كريمة بين المثقف وبين السلطة، كل ما تهتم به هذه المؤسسة الغريبة هو ما يمكن إدراجه تحت مسمى الحفلات الإعلامية والتصاريح، أو القفز من عاصمة إلى أخرى في بلاد العالم الثالث لتقديم سيرك ثقافي لا علاقة له بواقعنا أبدا.
* برأيك.. هل قدمت الأندية خدمة للثقافة السعودية؟
- لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً، أنديتنا تساعد وزارة الثقافة في تحقيق الأهداف الكارثية التي أشرتُ لها في إجابتي السابقة، كما أنها تفتت اتحاد الكتاب الذي حلمنا به إلى مناطق أدبية يعمل كل فئة فيها ضمن طموحات واجتهادات وخيالات أعضاء النادي. بالنسبة لي، لم يعد يعنيني الأمر.
* لماذا لا يصاحب النقد العربي إنتاجنا؟، هل أصبح النقد إما مديحاَ للنص أو إطراء مجانبا لقيمته ؟ كيف لنا أن نتخلص من الكتابات النقدية الصحفية العجولة؟
- النقاد الحقيقيون تجدهم دائماً أقليّة، وبلا ضوء، وبعداوة كاملة مع مدّعي الثقافة، لذا لا تتوقع أن يحيطوا بكل هذا النتاج. كما أن المشاريع النقدية لدينا ليست واضحة المعالم، وكم من ناقد وجد ضالته في كتابة زاوية أسبوعية فأخلد إلى الأرض واتبع الأضواء، وصار مبدعاً في وصف الأعمال الإبداعية دون أن يضيف جديداً.
* لهذا أنت بعيد عن كتابة زاوية أسبوعية في الصحف السعودية؟
- جربتُ ذلك، فوجدته مجرد التزام قد يورطني في ثرثرة لا أجيدها حول النصوص، فآثرتُ الصمتَ حتى أجد ما يستفزني للكتابة. وعندما أكتب فإنني أجد سبيلاً للنشر من خلال صحف أعتقد أنها تبحث عن الصدق أكثر من بحثها عن التطبيل الفارغ الذي صار هو القاعدة للأسف.