يشكل التماس بين الفنين المتشابهين في المظهر، المختلفين في الجوهر (السيرة والرواية)، إشكالية معرفية سببها التشابه الظاهري والتداخل في معنى المسمى غير المصطلحي، فكل منهما ينضوي تحت المسمى المشتق من الفعل العربي، فيما يعني القص والتتبع، في الثقافة العربية، وسبب التداخل الذي جعل هذين النوعين من فن القص - بشكل عام - متشابهين، هو القص العربي المنقول من الماضي بالرواية، المنحدرة من الفعل العربي (روى) وفاعلها (راوي)، والراوي في أساس الفعل الناقل للماء، والرواية في المصطلح العربي القديم تعني النقل من الماضي، وتعتمد في الكثير من الأحيان على مقتطفات من سير الأبطال والمشاهير من طبقات المجتمع، ورواية الحدث الرئيس والذكريات، وما يصاحبها من الأحداث، لكنها تختلف في المصطلح العالمي الحديث للرواية باعتبارها فناً قائماً بذاته، اصطلح عليه (Novel) في مقابل القصة الطويلة أو الحكاية أو القصة القصيرة، وكل هذه المصطلحات تحت مسمى القصة بالمفهوم العام، لكن الرواية تختلف عن بقية أنواع القص(Fiction) تعنى بربط الحدث الماضي في تصوير مستقبلي، ويستعين الروائي بالماضي في بناء روائي له مقومات تختلف عن مقومات السيرة وبقية الفنون القولية، في نقل الحدث وتوظيفه، التوظيف المناسب، في رؤية استشرافية لما يتخيله الروائي بناءً على معطيات الحاضر؛ وهذا لم يتوفر إلا لمن وهب ملكة السرد، واستطاع أن يفرق بين فنونه المتعددة بناء على ثقافة معرفية لهذه الفروع السردية؛ وجاء هذا الخلط بين هذين الفنين بسبب التشابه الظاهري، الذي أشرت إليه قبل قليل، مما جعل الكثير من الروايات العربية والسعودية على وجه الخصوص تصدر ضعيفة، لا تتعدى القصة الساذجة المتداولة في مجالس السمر للتسلية بلا خيال هو شرط الرواية الفنية الأول، أو رواية الأساطير مجردة من مضمونها الفلسفي الرمزي، ولغة الرواية المعبرة عن مضامين القص الفني العام والسرد بأنواعه المتعددة، كالسرد التاريخي، والخبر، والتقرير، والخطابة، وغيرها...؛ ويشكل التماس بين الرواية والسيرة رافداً من روافد الرواية، باجتزأ جزء من السيرة يوظف في صلب الرواية على هيئة لقطات ذهنية، بعيدة عن التصوير الفوتو غرافي، مثل اللقطة التاريخية،فيما يتعلق بالزمن، أو الجغرافية،فيما يتعلق بالمكان، أو الرمز الأسطوري العارض ضمن السياق الروائي؛ أما أن توظف السيرة بكاملها لتكون رواية فهذا هو المستحيل، لأن السيرة ليست موضوعاً صغيراً يمكن أن ترفد به الرواية - كما ذكرت قبل قليل- لكنها موضوع له حدوده ومقوماته، لا يمكن أن يكون رواية، كما أن الرواية لا يمكن أن تكون سيرة، مهما كان الأمر؛ كما أن هناك الكثير من الخلط بين هذه الأجناس الأدبية، عند الكثير من الدارسين المحدثين، الذين يعتبرون الحدود بين هذه الأجناس قد انعدمت تماماً ، فالرواية في مذهبهم سيرة، والسيرة رواية، والقصيدة قصة، والقصة قصيدة،...؛ ونستطيع من خلال هذه المقدمة أن نحدد السيرة، التي عاث الباحثون في تعريفها، وذهبوا بها مذاهب شتى، وخلطوا بين المتشابهات من أجزائها وروافدها، مثل المذكرات والذكريات واليوميات، لكن أبسط تعريف لها هو (تاريخ حياة شخص منذ الولادة حتى كتابتها)، والرواية ليست تاريخاً بالمصطلح المعروف، لكنها دليل على تاريخ ما في حقبة ما؛ وحتى الرواية التي سميت بالتاريخية في أوروبا منذ مطلع القرن التاسع عشر، وكان أولها رواية (إفان هو(Ivan hoe) للكاتب الإسكوتلاندي (السير ولتر سكوت(Walter Scott) 1771-1832 م، التي كتبها بالإنجليزية، كأول كاتب يكتب بلغة غير لغة قومه، اعتبرها النقاد رواية تاريخية، لكنها لم تكن ترصد الأحداث التاريخية، لكن بناءها أقرب إلى التاريخ، كما هو الحال في الرواية السياسية، ورواية الخيال العلمي...، ومع وجود البطل في كل من الفنين في صورة ظاهرية، نجد خلو السيرة من الشخوص الفاعلين، أضف إلى ذلك أن السيرة أفقية الامتداد الزمني، بينما الرواية رأسية، في شكل هرمي متصاعد من البداية نازل إلى النهاية، والذي خدع الكثير من النقاد والدارسين، وجود الزمان والمكان،ولم يلاحظوا الاختلاف في الحدود والمفاهيم، للزمان والمكان، وهذا هو الذي جعل الكثير من النقاد غير المتخصصين في فن الرواية يظنون أن العناصر المشتركة المكونة للنصين كافية لتكوين رواية،لأنها كافية لتكوين سيرة ذاتية، أو رواية سيرية، أو سيرة روائية!!، إلا أن مكان الرواية يختلف عن مكان السيرة، فمكان السيرة معروف محدد، ومكان الرواية خيالي موظف، وزمان الرواية تقريبي، وزمان السيرة محدد، وغالبا ما يكون مثبتاً بتواريخ، تقترب من المذكرات اليومية، والذكريات، وأدب الرحلات، وجولات الرحالة والدبلوماسيين، وينطبق على هذه الأنواع مصطلح البكاريسكية، (picaresque) ، وإذا كان مجتزأ السيرة من روافد الرواية، فإن السيرة لا يمكن أن تكون رواية حديثة بالمعنى المتعارف عليه في عالم الفن الأدبي الحديث، ويمكن أن تسمى قصة طويلة؛ فالسيرة ليست بهذه السهولة والتواضع الشديد لتكون مادة كاملة لرواية ما، ولا الرواية بهذه السهولة التي يتخيلها البعض على أن تكون سيرة؛ والذين يرون في دمج هذه الفنون في بعضها يقضون عليها من حيث لا يعلمون، ويفقدون كل فن ميزاته وقوته، بل يسمون الأشياء بغير أسمائها، وفي هذه الحالة تضيع الفنون في بعضها وتفقد ذوقها واستقلاليتها، وترابطها، بدلاً من أن يقوي من أواصرها ويشد عضدها، في تكوين منظومة أدبية تمكن كل من أعطي موهبة في واحدة منها من الإبداع، فيضيع بالتالي المبدع في هذا المحيط المتلاطم الأمواج، ولا إبداع بعد ذلك.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244