استفاضة في رأيي بشأن (نهاية الشعر وبداية الإنسان) المنشور في الجزيرة الثقافية، أُعزز ما أذهب إليه بأنّ ثمة فتحاً جليلاً في مجال تلقي الجمال برمته يتحرر من الشروط الأبوية والمؤسساتية ذات الصلة بالرعاية والتعاطي مع الأثر الفاعل في المتلقي، حيث إنّ الإنسان سيكون سيد لحظته في إدارة هذه العلاقات، إذ لا وصاية عليه من المرجعيات التقليدية أو الحداثية أو الإيدلوجية. وتتجلى اللغة واللغة الشعرية تحديداً من حيث تجنيسها وتثقيفها النوعي ودلالاتها الإيديولوجية كمظهر حسم في قضية نهاية الشعر وبداية الإنسان بوصفها امتداداً لأداة تعبير في شتى الفنون التي استلبت مفردة (اللغة) في مناشطها النقدية فظهرت توصيفات (اللغة التشكيلية) و(اللغة الموسيقية) و(اللغة الحركية) وغيرها. فكاريزما مفردة (اللغة) حدث قبوله على نحو واسع وعشوائي واستثماره كأداة تعبيرية مثقفة يعتمدها الناقد لإضافة لون من الحداثة في تناول الأثر الإبداعي في الحقول غير اللغوية.
النص المكتوب بوصفه هو منتج ومصدر مفردة (اللغة) بكل إشعاعاتها بات أكثر الأنماط الإبداعية شعوراً بعبء هذه المفردة على حالة التلقي لا سيما تلقي ما بعد الحداثة التي كرست لحضور الثقافة المادية في الفعل الإبداعي النابذة للمركزية المحتفلة ضمنياً بالمرجعية الآحادية. والسؤال المهم (هل اللغة حالة مركزية يجب تخطيها لتحقيق تمام استقلالية الإنسان في التلقي؟).
(اللغة) معطى علمي أول أمرها وتجذرت هذه العلمية في تمييزها أمماً عن أمم ولهجات عن لهجات بل اكتسبت بُعداً طائفياً وحزبياً وذوقياً وانتهت إلى أنها تجلّ حضاري يتم استثماره في سبيل إنجاز المشروع الخاص أو العام، فكثيراً ما تطرح (حضارة / لغة) على نحو متلازم في تناول قضايا التاريخ. وكل هذا يؤكد أن (اللغة) لم تعد تعبيراً عن نفسها باستقلالية بل تعيش تكاملاً مع أطراف لا تتفاعل معها بوصفها لغة بل بوصفها إنجازاً وليس ومُنْجِزاً. وهذا يرمي بظلال على دورها في الإبداع المكتوب ف (اللغة) تُعامَل كطرف في العملية الإبداعية المكتوبة بالإضافة على المعنى والدلالة والخيال.. إلى آخره من التشظي في تناول الحالة الجمالية كوحدة واحدة. فاللغة لم تنجح أو لم تأخذ فرصتها للنجاح في التعبير عن اللحظة الإبداعية برمتها فضلاً عن تطويعها للمؤسسة الكلاسيكية أو الحداثية لتمثيل القيمة الحزبية داخل المؤسسة فتمارس اللغة عندها دوراً إقصائياً يعمل على تصنيف أدوات الإبداع إلى مرحلة ذوقية لا إلى إبداع وضعف أو فشل ونجاح، وهذا هو التصنيف الطبيعي الذي ترضاه فطرة الإنسان القديم الجديد. ونلجأ في هكذا حالة على الممارسة الفطرية في إنتاج الاستثناء المكتوب والمنطوق وتحديداً من (لغة) إلى (كلام)، فالأولى احتملت من العيوب الآنفة ما جعلها تخفق في تمثيل اللحظة الجمالية الاستثنائية بالإضافة إلى حزبيتها وأدلجتها ومعاملتها تاريخياً بوصفها إنجازاً وليس مُنْجِزاً، وكذلك مركزيتها وطواعيتها للعزل عن أبعادها على عكس (الكلام) الذي يعامل وحدة واحدة وكُلاً لا يتجزأ، فهو إما جيد أو رديء يتم الحكم عليه وعلى محموله من دلالة وخيال ومعنى دون فصل تعسفي يفقد الإنسان علاقته الطبيعية غير المتوترة مع قوى الجمال في العالم. فمن الحاسم أن اللغة توصف بأنها حداثية أو كلاسيكية، وهذا هو مرضها، في حين أن (الكلام) متحرر من هذه الارتهانات الفجة.
مصطلح (الكلام) كبديل عن (اللغة) في شتى أنماط تناول الحالة الشعرية قولاً وكتابةً ونقداً وتصنيفاً وحكماً سيبسط العلاقة بين (المتلقي والنص) إلى (الأذن أو العين والكلام) وسيمنح الأطراف الثلاثة (المتلقي والنص والعلاقة) مزيداً من الأنسنة والتلقائية بل والحرية التي هي من ضرورات الحالة الإبداعية. ولا يعني استبدال (اللغة) ب(الكلام) في الكتابة والنقد أن نهمش الحالة الحساسة التي يعيشها المبدع بل قد تبلغ أعقد حالاتها التأصيلية والفلسفية دون أن تخل باختياره ل (الكلام) كأداة صوفية للتعبير حتى عن اللّدنِّيات وما هو أعقد.. يقول أدونيس:
كلما حدّثْتُ شيئاً
خرجتْ نفسي من دجلتها
ومشتْ مشطورةً في الضفتين
مثلما ينشطر التاريخ في قبر الحسين
ومربط الناقد هنا هو (حدَّثَتْ) فهي استثناء في تصنيف المنطوق والمنطوق هو (كلام) وانتهى إلى هذا المستحيل اللذيذ الذي صاغهُ أدونيس في (كلام) يحيل إلى حالة من التمرد على مأسسة الحالة اللغوية.
إن الارتداد الجمعي من المكتوب إلى المشاهد يعزز مكانة المسموع (الكلام) بل وهيمنته إلى حدّ التنميط والتعميم على علاقة (المتلقي واللغة) إلى (الأذن والكلام) الذي فرضته ثقافة الصورة (تجليات ما بعد الحداثة) التي تتبوأ منطقة وسطى ما بين المسموع والمنطوق تُستقطب أكثر إلى الطرف الذي يوفر مناخ العفوية أكثر إذ الصورة محمولة في مجمل حضورها على الصوت المرئي التلفزيوني في أغلب حالاتها وهذا ما عزز حضور المسموع المتحرر من المؤسسة والقاعدة إلى الإنساني المحض وهنا يحرز (الكلام) تقدماً جديداً على حساب (اللغة) له امتداده على النص الشعري ذاته.
إن الشعر كائن حيّ يتقاطع مع مجالات الإنسان الجمالية والعلمية وكثافة هذا التقاطع ستضع النص الشعري أمام خيارات في تحديد آلية تجلّيه ونوع حضوره بين اللغة و(الكلام) أضف على ذلك ظهور الرواية الجديدة التي حققت سقف مبيعات غير مسبوق دون أن تحفل هذه التجارب اللغة ومارست اعتداءات على الجمال هي من صميم الجمال. وكذلك تنامي الاهتمام بالشعر الشعبي الذي يعكس لغة الشارع والمطعم وميادين الرياضة حيث يزدهر الكلام الذي يمثل الطبيعة الحقيقية للإنسان وتتوارى اللغة التي تصنف المنطوق تصنيفاً يخرج عن أهداف نطقه وهو التعبير عن الحاجة الإنسانية السريعة.
كثيرة هي المؤشرات على سقوط (اللغة) من برجها العاجي لتعيش حياتها الطبيعية في شارع (الكلام).
- الرياض
Hm32@hotmail.com