إن من حسن حظي أن أتحدث في مناسبتين تكريماً للناصر، فقد شرفت بإلقاء كلمة في الحفل الكبير الذي أقامه الطلاب المبتعثون ببريطانيا وإيرلندا وتناولت فيها جانباً من نتاجه الإبداعي والفكري، وهأنذا أتحدث أمامكم الليلة في مناسبة تكريم مستحقة أخرى لأبي عبدالعزيز يقيمها أصدقاء مخلصون لا يتفقون في كونهم محبين للناصر فحسب، بل في كونهم أعلاماً في الأدب والصحافة في بلادنا، إنهم يعلموننا هنا كيف نظهر صداقتنا لشخص في حياته، كما يشير إلى ذلك الروائي الأمريكي سكوت فيتزجيرالد، ولعل من سوء الحظ أن أتحدث بعد أن تنهمر سحب هذه الكوكبة وفاء وعطاء، ومع ذلك فستظل الكلمات الوفية تترى في حق من يستحق.
ولعلي لم أر اتفاقاً عاماً على دور وعطاء ووفاء وحسن تعامل مع من يعرف ومن لا يعرف، كما رأيت في حال أبي عبدالعزيز، فإن تأملته كاتباً وجدت مئات من المتابعين لما يكتبه أسبوعياً وعشرات من المعلقين كما يبدو في الموقع الإلكتروني للجريدة، وإن نظرت إليه مسؤولاً وجدت الآلاف من الطلاب الذين يتغنون بنبله ورفعة خلقه، ووجدت الولاء غير المحدود من موظفين وموظفات، فهم جميعهم يثمنون دوره ويثنون على ما أنجز خلال فترة عمله في لندن.
وبما أني كنت هناك وكان من حسن الطالع أن تنتهي بعثتي مع نهاية فترة عمله هناك وكنت من العائدين معه في الفترة نفسها فإني أود الإشارة - بإيجاز- إلى بعض الجوانب من ثقافته وبعض الملامح من شخصيته كما عرفته في السفر أو الإقامة.
إن ما أنجزه أبو عبدالعزيز من مؤلفات في القصة والمقالة لا يكفي لتبيان تلك الجوانب فهو على سبيل المثال ذو ذاكرة قوية يمكن عده موسوعة في الشعر العربي القديم والحديث، وفي تجارب الشعراء الأقدمين ولاسيما من عاش منهم بأرض نجد إذ تراه يردد شعره بطلاقة وبيان تنبئان عن معين وافر من الخبر بأولئك الشعراء وأحوالهم، وإن تحدث في التاريخ فتراه يجيد قنص مفاصل الأحداث وتحليلها دون انحياز أو تجاوز، وإن تحدث في أحوال المعاصرين فتراه يحرص على أن يتبنى منهجاً عدلاً دون مبالغة ولا غمط، ومع كونه قاصاً معروفاً إلا أنه يملك ذخيرة هائلة من القصص والحكايات التي يأسر بها مستمعيه، إذ كنت أحد هؤلاء المأسورين بما يسرد من وقائع وأخبار وحكايات وأسرار.
أما الجانب الشخصي فقد كان الرجل كما عرفته وصولاً ودوداً لا تغيبه المهام، ولا تنسيه صحبة الأيام، إن سافر فنعم الصاحب، وإن أقام كان الأحرص على أداء الواجب، يغمر أصدقاءه بدماثة خلقه وحسن حديثه، ولعلي أكتفي هنا بما أورده هنري ديفيد إذ يقول: (إن لغة الصداقة لا تشكلها المفردات، لكنها تتشكل من المعاني) فالمفردات مهما قلت -يا صديقي- لا تكفي لتنقل كل ما لديّ من معان للمحبة والوفاء.