قام الباحثان القطريان علي عبدالله الفياض وعلي شبيب المناعي بوضع كتاب رصين حول الشاعر الكبير المرحوم محمد بن عبدالوهاب الفيحاني (1907-1939) الذي توفي في ريعان الشباب (32 عاماً فقط). وتمت طباعة هذا الكتاب عام 2005 في شكل جميل يليق بمكانة الشاعر عبر المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بدولة قطر.
شاعرنا ينتمي إلى عائلة (الفياحين) الذين ينتمون إلى قبيلة (سبيع). وكان جده ? الذي سميّ الفيحاني على اسمه - من كبار تجار اللؤلؤ، وكذلك والدهُ جاسم بن محمد بن عبدالوهاب، أما جدهُ لأمه فمن آل طوار (البوكوراة).
ولد الشاعر في مدينة (الفويرط) شمال قطر واختلف المؤرخون والرواة ُ في تحديد يوم ولادته ! أحدهم ذكر أنه ولد سنة 1325هجرية، وذكر المؤرخ السعودي (صالح الذكير) أنه ولد يوم 10-1-1907، ودرس في الكتاتيب بالقرية، عندما بلغ السابعة من العمر. ثم أرسله والده إلى الكويت للدراسة عند أحد اقربائه هنالك، حيث دخل مدرسة (المباركية) وتعرف على علوم الدين والأدب. واختلف الرواة ُأيضاً أين واصل الفيحاني دراسته. فرأى بعضهم أنه درس في مدرسة صغيرة في (بومباي)، ومنهم من قال إنه درس في الزبير، ومنهم من قال: إنه درس في البحرين. وآخر ذلك أنه درس في الأحساء !
اتصف الفيحاني -رحمه الله- بحسن الخلق، وجمال السيرة والوفاء. وكان طيب المعشر خجولاً عند المواجهة. يمتاز بالعفة والتهذيب، وكان يحافظ على الصلوات في أوقاتها، كما اتصف بالصبر والجلد والشهامة وعزة النفس؛ بالإضافة إلى رهافة الحس. وكان معتدل القوام ليس سميناً، وواسع العينين، وقد استدل الباحثان صفاته وشكله من واقع شعره !.
ويلاحظ أن كثيراً من قصائده تبدأ بافتتاح ابتهالي لله والتضرع إليه.. يقول:
يالله يا عالم خفا كل مضمور
يامن على عرشه إله السماء صار
ياخالق الظلمة وخالق النور
وياخالق الجنة ويا خالق النار
ياحيّ ياباعث جثي كل مقبور
ومعيد للفانين منشر ومحشار
ويقول في افتتاحية قصيدة أخرى:
يالله يامنزل تبارك وتنزيل
يا حاكم بالخلق يا خير قايل
جامع كتب موسى وداوود وانجيل
عيسى بقرآنك وخير الدلائل
يا ناصر موسى ومجزي هل الفيل
مبيد بالطغيان خلقة الأوايل
سبحان من يحيي بالأقدار ويزيل
يامن بحكمته السموات شايل
ومن تلك الافتتاحيات نلاحظ سعة اطلاع الفيحاني وإلمامه بقصص القرآن الكريم والحوادث التاريخية التي وردت فيه. وهذا يدعم ما ذهب إليه واضعا الكتاب من أنه كان ورعاً ودارساً للقرآن.
ولم تقل ثقافة الفيحاني التاريخية عن ثقافته الدينية. حيث يذكر هزيمة كسرى على يد العرب، والأسكندر الأكبر، كما يذكر العديد من مشاهير الإسلام في أبيات معبّرة:
وبفضل كعب وحكم لقمان وشعور
بن عاص عمرو وحلم الأحنف وعمار
وبفهم قِسّ وفكر سحبان وحضور
وبعلم إبن عباس مع كعب الأحبار
وبعفة النعمان وبزهد وبرور
سفيان وابن أدهم وتقوى إبن دينار
وإقدام ابن مرّة وعنتر وبَجسور
ثاير كليب اللي خذ الوتر والثار
الحب العذري، الذي أورد الفيحاني موارد الوله والتوق لشيء بعيد المنال، حيث (مي) التي أحبها حباً عذرياً صادقاً وكان أن قرر الزواج منها؛ إلا أن تقاليد الأسرة لم تسمح له بذلك، حيث إنها تنتظر إبن عمها الذي خطبها لنفسة. فظل الفيحاني هائماً وفياً لحبه حتى موته. رغم أنه حاول توسيط العديد من الشخصيات المرموقة لمساعدته في خطبة (مي)؛ ولم تفلح كل محاولاته، حتى أضناه الحب وتكالبت عليه الأمراض حتى توفي. وانتشر بين الناس أن الشاعر قتله الحب العذري؛ ولعل الحادث تذكرنا بقصة مجنون ليلى وغيرها من قصص الحب العذري الذي كان مآله الفراق وعدم اللقاء؛ ولقد حفل ديوان الفيحاني بالعديد من القصائد التي تروي صدق حبه ونبل روحه وعفافة لسانه تجاه حبيبته التي أسماها (مي) !
ولسوف تقتصر في هذا الاستعراض على قصائد الحب فقط، رغم جمال وقوة قصائده الأخرى. ولقد تغنى العديد من المطربين الخليجيين بقصائد الحب تلك.
ألجأهُ حبُ (مي) إلى ترديد الشكوى من رداءة الأيام. وكان (الفيحاني) يرسل قصائد الشكوى لمعاصريه وأصدقائه. ومنها:
ماجور يا قلب ٍعن الوصل بقيود
ناحيك عن لاما الحبايب بلايا
ما لاح نجمك مرة بس بسعود
دوبه على عكس الهوى بالهوايا
عيا العوج ما يعتدل يابس العود
مكر النوى متناهي في عنايا
يخطى الخطا غيري وأنا فيه مقيود
وش زلتي يا وقت شنهو خطايا
ونلاحظ أن قمة الشكوى في البيت الأخير؛ حيث تبعث على اليأس؛ كون الشاعر يؤخذ بجريرة غيره الخاطئ، ويخاطب الزمن (ماهي خطيتي.. أو خطاياي)!
وفي مقاربة تاريخية يقارن الحال المأساوية التي حلَّ بها أو حلت به بأنه لو اشتكى الى الحديد لأصبح فحماً !؟ ولو اشتكى لأهل الكهف لقاموا من سباتهم، يقول:
عزوتي لك في حشاي إلها حطيم
لو عزيت بها الحديد أصبح صخام
وإن عزيت أهل الكهف وأهل الرقيم
ساعدوني،وإن عزيت الميت قام
ونلاحظ بلاغة الشاعر، وحُسن استخدامه للمبالغة المعروفة في الشعر العربي (وإن عزيت الميت قام) وهذه من الاتجاهات المعروفة لدى أبي تمام والمتنبي.. حيث مديح سيف الدولة وإطلاق أفعال المعجزات عليه، مثل:
تجاوزتَ مقدارَ الشجاعة والنُهى
بقول أناس ٍ أنتَ بالغيبِ عالمُ
أول قصائد الديوان الغزلية بعنوان (شبعنا من عناهم) وهي من القصائد المشهورة؛ ومازالت تدور على ألسنة محبي الشعر الشعبي، كونها غُنيّت من أكثر من مطرب خليجي. يقول مطلع القصيدة :
شبعنا من عناهم وارتوينا
وعند ارسوم منزلهم بكينا
وعقب إفراقهم شِنا وحِنا
وحنينا وثم إنا عوينا
وسايمنا وساقمنا وحنّت
لنا حتى المنازل والعّنينا
ونادينا وقلنا خبّروهم
ترانا من محبتهم نعينا
وثرنا من مفارقهم نحلنا
وكان فراقهم طاول فنينا
إلى جيتوا منازلهم فقولوا
لهم بأقوالنا يا راحلينا
ولا تنسون ما قاله (محمد)
أمانتكم لها يا حاملينا
لسنا هنا في وارد شرح الأبيات، لكن نلاحظ الإشارة إلى حالة اليأس والألم عندما استخدم الشاعر كلمات (شِنا)، وكذلك الجناس في قولة حنا وحنينا؛ ولم يشرح المؤلفان معنى كلمة (عوينا) وأعتقد - ولربما كنت خاطئاً - أن الشاعر يقصد الصراخ من شدة الألم الذي يعتري المخلوقات. وفي لمحة وفاء الدار لأهلها نجده يتذكر أن المنازل و(العنين) وهي محل استراحة الناس من هجير الشمس - وتقام من جريد النخل أو الأغصان هو تجسيد لتعاطف المكان معه:
وسايمنا وساقمنا وحنّت
لنا حتى المنازل والعنينا
ويستخدم الشاعر الكبير ألفاظاً متداولة دالة، فيذكر (نعينا) ويعنى بها البكاء .. لكن كلمة (النعي) - كما يفسرها مختار الصحاح - تعني خبر الموت !؟ واستخدامها هنا أبلغ بكثير من كلمة (فنينا) على سبيل المثال؛ حيث يستقر بها حال البيت، لكن الشاعر آثر الوصول إلى بلاغة أخرى تتجاوز الفناء إلى مرارة التعايش مع الموت. كما تبرز اللمحات الدينية في البيت الأخير، حيث الإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وحرصه على أداء الأمانات لأهلها، حيث يوصي الشاعر الراحلين بأن يحملوا ما قاله - من صدق ووفاء - إلى أصحاب المنازل المعنية - ويعني منزل (مي)!
ومن القصائد التي مازالت حية في الوجدان قصيدة (السفينة) والتي غناها بعض المطربين الخليجيين، حيث يبدأها - كما هو حال الشعراء العرب في بعض الأحيان - بالاستفهام الإنكاري .. يقول :
هل من بقايا أثر أم هل تلايا خبر
أم هل تراهم عيوني أم هل يراهم بصر
ونلاحظ ها استخدام الشاعر كلمة (تلايا) وتعني بقايا أو استتباع خبر، وجاء في (مختار الصحاح) جاءت الخيلُ تتالياً.. أي متابعة !؟
يواصل الشاعر قصيدته:
من عقب ما هو نفر عني وشام وشَهر
وهنا يشبة حبيبته بالطير، حيث استخدامه لكلمة (شهر) التي تأتي بعد كلمة (شام) ومعناها تكبر وابتعد، ولنا تخيّل جمال التشبيه بين الكلمتين بل والتصاقهما ببعضهما البعض حيث الابتعاد على الأرض و(شهر) الارتفاع إلى السماء !؟ وهي حالة من حالات النأي والفراق الصعبة والمستحيلة !؟
وعودة إلى توريط اللفظة الدارجة جدتً استخدامه لفظة (لحلول) والمعني بها (لا حول ولا قوة إلا بالله):
لحوّل وش ذا المصبية
والجفن دمعه مطر
وتستخدم كلمة (لحوّل) عند وقوع غير المرغوب فيه، كما فسرها الباحثان، لكن الجميل هو التشبية البليغ في قولة (دمعه مطر) حيث جاء التشبية البليغ بحذف أداة التشبية والمشبه؛ دون حاجة للاحتراز من ضياع القافية (حرف الراء) بل أضاف ذلك جمالاً إلى البيت كون أوله يتحدث عن مصيبة !؟ وفي البيت التالي يواصل الحديث عن الجفن الذي (دمعه مطر) حيث يقول:
دوبه يعالج سّهّر ويصبّ دمِّ حمر
وهنا أيضا له تشبيه بليغ في (دم حمر). ويعود إلى اللفظ الدارج في كلمة (دوبه) أي (دابهً) دأب الجفن الذي يعاني السهر، لكنه للأسف، يصبُ دماً أحمراً مكان الدمع. حيث ندرك أن لون الدم هو غير اللون الأحمر.
ومن قصائد الديوان المؤثرة؛ القصيدة التي بعث بها الشاعر الفيحاني إلى الشاعر سعد بن علي المسند - أحد كبار شعراء الخور- ويشكو فيها من لواعج الغرام .. يقول:
سلامي على دار تناست إعلومها
ومِحيتْ من البوح الروامس إرسومها
سلامي على دار الفتاة التي رمت
وصابت فؤادي من مرامي وسومه
سلامي عليها دامت الروح في البقا
ولو هي بنزع الموت تالي نِسومها
بالطبع، فالرسالة واضحة للدار التي نسيت أخبارها (علومها) بحكم تقادم العهد، وانطمست آثارها بمرور الأيام. ونلاحظ الجمال في الشطر الأخير (تالي نسومها) هنا تعني آخر ما تبقّى من أنفاس الحياة. أي أن الشاعر يرسل السلام للدار حتى وهو في آخر رمق من الحياة، وهو موقف إنساني نبيل.
من غريب ما حواه الكتاب الثمين هو آخر قصيدة كتبها الشاعر بقلم الفحم على جدار غرفته بمستشفى الإرسالية الأمريكية بالبحرين - عندما ذهب من قطر كي يتعالج من مرضه الذي أودى بحياته يوم 8-12-1939؛ حيث كتب:
ياقلب بالله وش علامك عليه
ماهو بذا زين
كلما تغيب إتهون زدت الجنية
ويلي من الشين
أهلكت نفسي وهي هزلا ردية
من بين همين
همِّ الحبيب وهم دنيا دنية
متعوب ما بين
وإنت جروحك في ضميري طرية
زادت بتمكين
ياهون الدنيا ولو هي قوية
دون المحبين
آه على قلبي غدا واعليه
بين المسيحين
كنه من الفرقا على ناب حية
أو بين ظفرين
ولا يتسع المقام لتفسير تلك الأبيات التي تسجل حالة الشاعر المحب وهو يناجي قلبه الذين يجور عليه - ولعله يقصد حبيبته - التي لم يعد له فيها أمل. ونلاحظ الصورة الجمالية في البيت الأخير (القلب على ناب حية أو بين ظفرين) ويقصد أظافر الوحوش.
أما القصيدة الأجمل التي يتداولها الناس حتى الآن هي (أحدث شجوني) ويقول فيها:
هاضني وأحدث شجوني
حب ناس ما يبوني
يرقدون الليل كله
والسهر قطّر عيوني
لو يبوني كان جوني
في وعدهم مااخلفوني
يوم شافوني مسيّر
سيّروا لي خالفوني
دايرين للسبايب
يالها والله عجايب
قصدهم قطع المواصل
وش عذرهم ما التقوني
ولقد غنى هذه القصيدة الفنان القطري الراحل فرج عبدالكريم.
الجميل في الكتاب أنه يحوي أكثر قصائد الفيحاني، وكذلك مخطوطات بيده؛ ويلاحظ القارئ أن الشاعر كان يرقم أبيات القصيدة بالأرقام الإنجليزية - التي تعتبر أرقاماً عربية في الأصل - كما توجد قصائد منقولة عنه بيد معاصريه.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«8072» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* أكاديمي وإعلامي قطري
hamsalkhafi@hotmail.com