رحل المخرج سيدني بولاك عن عمر يناهز الثالثة والسبعين عاما بعد معاناة مع مرض السرطان. رحل بعد أن رفد السينما بروائع من الأفلام التي حصدت الجوائز الكبيرة ومنها الأوسكار.
عندما يرحل مخرج مثل سيدني بولاك فإن قراءة أعماله ثانية تأخذ بعدا مختلفا. هكذا دائما الإنسان بعد الرحيل. لا أحد يعرف السبب. وعندما يبلغ المبدع المكانة المرموقة في عالم الإبداع فإن تفسير حتى الأعمال البسيطة والتجريبية التي أنجزها يصار إلى تفسيرها وفق المكانة التي بلغها في حين ربما تلك الأعمال قد مرت وهي لم تكن بالنسبة حتى للمبدع سوى مفردة من جسر العبور نحو الإبداع.
ومن هنا أعيدت حتى قراءة فيلمه الوثائقي عن صديقه المعماري الشهير فرانك جيري.
سيدني بولاك قيمة كبيرة ومهمة جدا في عالم السينما والإبداع. ولعل فيلمه (إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك) كان واحدا من السيمفونيات الحزينة للحياة الإنسانية بعد الأزمة الاقتصادية التي مرت بها أوروبا في الثلاثينيات من القرن العشرين. فلقد تركت الأزمة حالة من اليأس في المجتمع الأمريكي والأوروبي.
كان سيدني بولاك ممثلا وناقدا وأستاذا في أصول السينما. ولعل قدرته كممثل ومعرفته لعلمية أصول التمثيل كانت أحد أهم عوامل تألقه كمخرج حيث يتألق بقدرة الممثل ويخرجه من نمط الممثل الجاهز. فالممثلون عند سيدني بولاك مفردات إبداع تتألق قدراتهم مع قدراته كممثل وكمخرج.
لم يتحدث أحد عن الأصول العائلية لسيدني بولاك فالجميع يعرفون أنه مخرج أمريكي لأنه ولد في أمريكا عام 1934 في ولاية إنديانا، لكنه من أصول روسية حيث هاجر والداه من روسيا في أوائل القرن الماضي واستقرا في أمريكا.
حاز آخر أفلامه المعنون (خارج إفريقيا) على الأوسكار كأفضل فيلم وأفضل إخراج ولكنه لم يكن راضيا عنه حيث كان يريده أفضل مما شاهده بعد الإنجاز في حين أثنى عليه النقاد كثيرا وهو كأي مبدع كبير يرى أن الكثير من أحلامه في تجسيد مشاهد الفيلم لم تكن كما شاهدها على الشاشة.
عام 1969 رشح فيلمه المعنون (إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك) لأكثر من أوسكار للفيلم وللمخرج وللممثلين. والفيلم مأخوذ عن رواية هوراس ماكوي التي تدور أحداثها في خيمة سيرك تجري فيها مسابقة ماراثونية للرهان على مدى أيام كانت بطلة القصة تريد الفوز بالجائزة للحصول على المال في سنوات اليأس الاجتماعية إبان الأزمة الاقتصادية لتغطي تكاليف العيش مع صديقها وزوجها وكانت حاملا. فمعاناتها خلال المسابقة وهي تركض داخل حلبة السباق بين تعب الحمل والخوف من سقوط الجنين جعلها غير قادرة على إكمال المسابقة والانسحاب منها، فتطلب من صديقها أن يطلق عليها النار حيث استدعت ذاكرتها حصانا متمردا قتله صاحبه وسقط أمام عينيها. في لحظة فشلها وانهيار حلمها في الحصول على مبلغ من المال من الركض الماراثوني أمام المراهنين تستدعي صورة الحصان الذي سقط ميتا كما في حلم.
عندما رشح الفيلم لأوسكارات وكان بولاك سعيدا بذلك كان منتج الفيلم غير سعيد لأن الفيلم لم يحقق النجاح المطلوب في شباك التذاكر بسبب النهاية غير السعيدة للفيلم حيث الأفلام التي أطلق عليها أفلام المجتمع الأمريكي والتي كانت تزدهر بها صالات السينما في تلك الفترة كانت تتسم بالنهايات السعيدة دائما. فلم يكن منتجو السينما في هوليود يتركون المشاهد وهو غير منفرج الأسارير غير مبتسم وهو يغادر الصالة. في فلسفتهم أن المشاهد يرى فيلما على الشاشة وهو لا يرى الواقع كما هو. وعندما يدفع عشرين دولارا ثمن التذكرة فإنه يريد أن يخرج سعيدا. فهو لا يريد أن يرى المأساة على الشاشة. إن المشكلات الاجتماعية لموجة أفلام المجتمع الأمريكي هي مشكلات درامية أكثر منها مشكلات واقعية. هي مشكلات مأخوذة من الواقع ولكنها منقولة على الشاشة. والمخرج الذي يريد أن يتناول المشكلات الاجتماعية عليه لكي يوقع عقد الإخراج أن يقر بهذه الحقيقة وهي أن يغادر الجمهور الصالة وهو سعيد. فجاءت نهاية فيلم (إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك) فاجعة للمنتج الذي كان جمهوره يرى البطلة تصارع الحياة على أمل أن تخرج منتصرة وتحصد الجائزة الماراثونية لتعيش سعيدة بها في ظل أزمة الحزن الاقتصادية فتنتهي قصة الفيلم بتلك النهاية الحزينة. لقد التزم المخرج برواية هوراس ماكوي والتي يعرفها الجمهور فلقد اشتهرت هذه الرواية كثيرا ولكن المنتج لم يكن يريد من السينما أن تكون صورة للرواية ولا صورة متطابقة للواقع الذي كان يبعث على اليأس.
إن نجاح السينما الهندية في أن تتصدر أولوية الإنتاج السينمائي في العالم حيث معدل إنتاج الأفلام السينمائية فيلم واحد في اليوم نابع عن النهايات السعيدة للأفلام. فالمواطن الهندي الفقير والمنهك اقتصاديا والذي يعاني من مشكلات كبيرة في مجتمعه. حياة صعبة بسبب الانفجار السكاني وشباب وفتيات يعملون في أصعب الأعمال إرهاقا ومنهم يتوجه نحو الشحادة. يمدون أيديهم للسائحين. وعندما يتجمع لديهم بضعة روبيات تساوي ثمن تذكرة سينمائية فإنه يهرع لمشاهدة فيلم هندي لكي يرى نفسه سعيدا على الشاشة. يشاهد الحب الذي يحلم به ولا يعيشه. يشاهد البطل الذي يتجاوز الصعاب الاجتماعية والاقتصادية وينتصر في نهايتها ويتزوج من فتاة أحلامه التي تتغنى به ويتغنى بها طوال ساعتين، تجعل الهندي الفقير سعيدا وهو يخرج مبتسما ويروي الحكاية لأصحابه الذين لم يجمعوا بعد ثمن التذكرة لمشاهد الفيلم.
رحل سيدني بولاك ربما مبكرا، لكنه السرطان الذي لم يقهره الإنسان بعد بسبب جشع منتجي الحروب الذين لم يوفروا للعلم فرصة قهر فيروسات المرض ما يمكن الإنسان من العيش مدة أطول وبحيوية أكثر تمكنه من الإبداع وعدم الشعور باليأس حتى وهو في سن اليأس. سيدني بولاك نموذجا. إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244
- هولندا
sununu@wanadoo.nl