ومن ذا الذي ينسى أن المستعمر لمّا خرج من مستعمراته بجيوشه أوكل الأمر إلى حارس بقائه الأمين في تلك البلدان، ألا وهو: لغته؟ وقد ثَبَت نجاح الفكرة، حين استبدل باحتلال التراب احتلال العقول والنفوس والمرجعيّات، فنشأ جيل (المستعمر الوطني)، الذي ظلّ ولاؤه هناك لا هنا، أو هو على الأقل يشعر بالقماءة إزاء ثقافة الأجنبيّ، معطّل الفكر، غير مبدعٍ، لأنه بنصف لسانٍ عربيّ فقط، هذا إن سَلِم له النصف!
وقد تحدّثنا في المساق السابق عن آيات الاختلاف بين البشر، ومن ذلك اختلاف الألوان والألسنة. فهل حافظنا على مزيّة اختلافنا؟ كلاّ، لم تعد لنا آية في اختلاف اللسان، وإن بقيت الألوان، فمن يزور الرياض كأنه زار لندن أو نيويورك، مع الفارق طبعًا. وذلك- من وجهة نظرنا السطحيّة- هو معيار الثقافة والعلم والانفتاح!
أين شخصيّتنا الثقافيّة من الشخصيّة الثقافيّة اليابانيّة التي أَبَتْ أن تذوب في التفوّق الغربيّ، الذي سحقها بأسلحته الذّريّة وغير الذّريّة، فنهضتْ كالفينيق لتجعل عقلها مصدر التقنية، وتقلب معادلة الحرب والسلاح؟ مع أن جُزر اليابان في جذورها أمّة وثنيّة، خرافيّة تاريخيًّا، وإلى اليوم، متخلّفة في معيار القِيَم العُليا، كما يراها المسلمون ويراها الغرب، وما زالت تأكل الرزّ بالعيدان، فيما أكلنا نحن الطعوم كلّها بالملاعق والأيادي والأقدام!
إن القضية هنا ليست بقضية تعصّب قوميّ، أو حتى غيرة على اللغة لأسباب دينيّة، وإن كان ذلك حقًّا مشروعًا. إنها قضيّة فكريّة، تنطلق من حقيقة أن الفكر المنتج لا ينفصم عن التفكير اللغويّ. إضافة إلى أن الاختلاف ضرورة إنسانيّة كونيّة، برغم أنف العولمة. والإنسان لا يبدع أدبيًّا ولا علميًّا بغير لغته الأُمّ، مهما غرّته الأضواء، وخدعه بريق اللمعان الزائف، والرؤى الظاهريّة للأمور، فجعل يُنْغِض رأسه ويمشي في (الطابور)، وإنْ إلى هاويته وحتفه.
ويظل توطين المعرفة بلغتنا هو سبيل اللغة إلى القُدرة الإنتاجيّة والتطوّر، وسبيلنا نحن إلى القُدرة الإنتاجيّة والتطوّر، ولا خيار لنا غير ذلك سوى الانتحار رقصًا بين أيدي اللغات الأخرى. وليست قُدرة اللغة بقُدرة فيها ذاتيّة، بل هي قدرة في أهلها أنفسهم متى استعملوها، ونمّوها، وصبروا على ذلك؛ فالشجر المثمر يحتاج إلى سنين، من الريّ، والسماد، والرعاية، لينبت، فينمو، فيستوي على سوقه، فيتفرّع جذوعًا وأغصانًا، ثم يُزهر، فيُثمر. و(خُلق الإنسان عجولاً)، ويبدو أن الإنسان العربي أكثر خلق الله عَجَلَة!
نظل نشكو من حال اللغة العربيّة، ونندب حظّنا وحظّها، دون أن نخدمها بشيء، بل دون أن نستعملها. ثم نقول: لا لا.. هي لغة لم تعد تصلح! كذا يفعل فريق منّا، وفريق آخر يعيش في خَدَر طمأنة طوباويّة للآخرين بأن اللغة بخير، محفوظة بوعدٍ إلاهي، والحمد لله رب العالمين! وكلا الفريقين- المشكّك في قُدرة العربيّة، والمطمئن باكتشافه أنها على ما يرام- يلعبان دورًا واحدًا في القفز على الحقائق، وصولاً إلى اعتناق لغة أخرى- هي الانجليزيّة بلا منازع- إمّا بحُجّة أن العربيّة انتهت صلاحيّتها، أو بحُجّة أنها إنما تصلح للشِّعر والمسامرات، فلنضعها على رفوف المتاحف، ولا بأس علينا أن نقتات على موائد اللغات الأخر!
ولكن عن أيّ توطينٍ نتحدث، والباحث العربيّ والباحثة العربيّة يجدان الإغراء من الغرب، أو حتى من إسرائيل، فيما لا يجدون إلاّ الصدّ والتنكيد من بلدانهم؟! مع العلم أن من هؤلاء متخصّصين في مجالات علميّة دقيقة، ونادرة، ويتبوّؤون مكانات علميّة عالميّة، ويعدّون من أفضل العلماء في العالم. ولسنا في حاجة إلى سرد الأسماء، فهم كُثْر، ومن هؤلاء نساء، وسعوديّات، وكان يمكن أن يكونوا سبيلاً إلى عقلٍ عربي قد يصبح يومًا منتِج تقنية ومصدّرها. هل أشير من هؤلاء- على سبيل المثال لا الحصر- إلى الدكتورة حياة سندي، التي دعتها جامعة بركلي بكاليفورنيا ضمن أبرز ثلاث عالمات في العالم، هُنّ: كارل دار، رئيسة بحوث السرطان، وكاثي سيلفر، أول رائدة فضاء، وكانت الدكتورة حياة سندي ثالثتهن؟ أم أضيف أنها- كما نعرف- من مواليد مكّة المكرّمة، ومتخصّصة في أدوات القياس الكهرومغناطيسيّة والصوتيّة. وكانت قد ابتكرت مجسًّا للموجات الصوتيّة والمغناطيسيّة، يعيّن الدواء المطلوب لجسم الإنسان، ويُعرف اختصارًا ب(مارس (MARS). ولقد تلقّت بسبب ابتكارها دعوةً من وكالة ناسا الفضائيّة للعمل فيها، ودعوات أخرى، حتى من إسرائيل. وإذا كان هذا هو حال المرأة، على الرغم ممّا تواجهه من معوّقات وعقبات، فكيف بالرجل؟
أين جامعاتنا عن استقطاب هؤلاء، كأضعف الإيمان، إن لم تدعم بحوثهم، وتسعى إلى استعادتهم من مهاجرهم إلى أوطانهم، وتهيئة الظروف المواتية لإنجاز مشاريعهم البحثية؟! وليس الأمر بمتعذّر لو صد قت الإرادة. أفهذا أهمّ لأوطاننا أم الإنفاق في سبيل الأمجاد الكرويّة والثقافة الشفويّة؟
يقول (لي كوان يو)، باني دولة سنغافورة الحديثة، في خطابه أمام منتدى التنافسية العالميّ، الذي جرت فعاليّاته في (الرياض)، خلال الفترة 20- 22 يناير 2008م، كما نقلت عنه مجلة (عالم الاقتصاد): (لو ولدتُ سعوديًّا لطرحتُ سؤالاً مفاده: ما الذي سيزيد من أهمّيتي بالنسبة لدول العالم؟ حتمًا إنه ليس رملي ولا جِمالي {إبِلي}، بل إنه بترولي، فهذا المورد مورد نادر جدًّا. والسؤال هو كيف نفعِّل قيمة هذا البترول مع ندرته في المستقبل؟... أريدكم أن تُقيموا صناعات تسمح لمواطنيكم بالاستثمار فيها، ولا بدّ أن تُرسلوا أبناءكم للعمل في الدول المتقدّمة، ثم العودة إلى تأسيس أعمال صناعيّة، ومصارف إسلاميّة جديدة في بلدكم... أنتم في بلادكم لن تجدوا صعوبة في تطوير التعليم... فبالنسبة لكم العالم القديم كان مكوّناً من بدوٍ وجِمال، ولكن الآن أمامكم خيارات عظيمة لتطوّروا أسلوب حياتكم، وأمامكم الفرصة المواتية لأن تتساءلوا عن كيفية تطوير حياتكم واقتصادكم لكي تعيشوا حياة ذات مستويات مرتفعة للغاية بعد حقبة البترول؟... نحن {في سنغافورة} نجتذب المهارات من جميع مناطق العالم... وجدير بالذِّكر أن نبيِّن أن الذين يأتون إلينا، ويلتحقون بدراسات إنسانيّة في بلادنا، بعضهم لا يعود لبلاده؛ لأنهم يحصلون على ما يريدون، وهكذا ننمو بسرعة). أفلا نرى الفرق هنا بين بلدٍ يأتي العلماء إليه، ولا يعودون لبلدانهم؛ لأنهم يحصلون على ما يريدون، وبلدٍ يهاجر العلماء (من أبنائه) عنه، ولا يعودون إليه؛ لأنهم لا يحصلون على ما يريدون؟!
وعن أي توطين علميّ نتحدث والتوجّه الأخير هو لتغريب الإدارة والتعليم، ودفع المليارات في سبيل ذلك، وإن كان ابن الوطن لا يقلّ كفاءة، إن لم يكن أكفأ؟! وكأن وجود هؤلاء (في حدّ ذاته) هو المكسب- لا ما يقدّمون- وإن وُجد عنهم البديل. وبونٌ شاسع هنا بين من يأتي ومن يُستأتَى، وبين من يضيف ومن يُضاف إليه، وبين من نحتاج إليه ومن يحتاج إلينا هو، وبين من يقدّم إلينا أكثر ممّا نقدّم إليه ومن لا يُقدّم عُشر ما قُدّم إليه، وبين من مؤهّله الوحيد أنه ذو عينين زرقاوين أو مُقَلٍ ضيّقة، ومن مؤهّله أنه ذو اختصاص نادر وخبرة واسعة لا غنى عنها، وبين من يأتي ولا يعود إلى بلاده؛ لأنه يحصل على ما يريد من تسهيلات تتيح له خدمة البلد الذي هو فيه، ومن يُستقدم ولا يعود إلى بلاده؛ لأنه يحصل على ما يريد من أموال، ومراكب، ومساكن، لا يحلم بها في بلاده، (ولا في المنام).
لكأننا إذن مقبلون على استيراد العقول وشرائها، على طريقة استيراد لاعبي كرة القدم وشرائهم، لا لشيء إلاّ لوهم أن وجود هؤلاء، من حيث هو، هو البوابة السحريّة التي ستنقلنا من العالم الثالث إلى العالم الأول. والحقيقة أنها ستلقينا من نافذة العالم الثالث إلى سطح العالم العاشر، من حيث إن الشعوب النابهة لا تتقدّم إلى الوراء بل إلى الأمام. ولا يتمّ هذا إلاّ وفق خطط استراتيجية مرحليّة، تتطوّر من الأجنبيّ إلى الوطنيّ. أمّا نحن فظاهر أننا اليوم نتقدّم إلى الخلف، أي من الوطنيّ إلى (مزيج الوطنيّ- الأجنيّ)، وصولاً إلى الأجنبيّ مرّةً واحدة، وكفى الله المؤمنين القتال!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* عضو مجلس الشورى
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net