كتاب (ثقافة التطرف.. التصدي لها والبديل عنها) للدكتور حمزة المزيني الناشط في مجال الإصلاح الثقافي هو الكتاب الأول في هذا الشأن وانتظم جملة من العنوانات تحركت تحت سقف محاربة التطرف. والإشكال الأول الذي تبدّى لي هو ارتباك في معادلة العنوان إذ ينطوي على عبارة (البديل عنها)، حيث من المقرر سلفاً لكل ظاهرة إجرامية هو عدم مشروعية البحث عن البديل لها فلا بديل للتطرف ولا حضور لمقابله فمآله إلى السحق والفناء، فثقافة (الاعتدال) لا تحل محل الطارئ الانحرافي لأن العودة إلى وضع ما قبل التطرف لا تلعب دور البديل على الإطلاق فوضعهما طرفا نقيض انتقاص للاعتدال إزاء ثقافة (التطرف) التي لا يحل محلها إلا الفناء والإزال، وأخلص إلى أنه ليس كل نقيض يقوم بدور البديل. ما يثير قلقي هو علاقة د. المزيني بقرائه وكيف تضطرب هذه العلاقة ساعة ينتقي المؤلف أفضل ما كتب في مشروعة الفكري الإصلاحي ليطرح محاور مدعومة بتصورات محل دهشة أنصاره وخصومه من شأنها أن تضعه في عمق السؤال وهذا ما استدعاني لدعوته للنادي الأدبي لفض التناقصات التي زخر بها الكتاب. سأقفز كثيراً من الملاحظات لضيق المقام ولأن بعضهما طرح في النادي وسأبقي على بعض لم يشبعها د. حمزة إجابة وربما تعمَّد ذلك.
في ص51 يؤكد د. حمزة أن الاستفتاءات السهلة اليومية التي تحال إلى أهل الفتوى مؤشر على عدم وجود ثقة تجعلهم قادرين على الرجوع بأنفسهم. والرد والسهل على هذا هو أنهم قد يعانون من الكسل أو الصعوبة التي قد تستغرق الكثير من الوقت في البحث وقد تنتهي محاولاتهم البحثية إلى بلوغ إجابة غير دقيقة، فلماذا الإحالة المباشرة على (الثقة)؟؟ والذي أثار استغرابي هو أن د. حمزة فاته أن الأفكار الإرهابية كلها كانت نتيجة البحث الفردي عن إجابات دينية.
في ص58 وفي معرض حديثه تدوين الأحاديث يردد ما ذكره سابقوه من أن العوامل السياسية والعقدية تدخلت في التدوين وأن الدولة العباسية والأموية أسهمت في تشجيع هذه الاختلاق. والرد هو أن هذا التصور دليل على إيمان د. حمزة بتفسير المؤامرة وهذا من القراءة العاجلة أو عدم القراءة مطلقاً للتاريخ في الوقت الذي يحذر فيه من الإغراق في تفسير المؤامرة في تناول الواقع والدكتور حمزة يعي أن هذه الآراء هي آراء غير سنية بل لو طلبنا من الدكتور أن يذكر لنا حديثاً واحداً صعد إلى واجهة الشريعة لما استطاع، فعلى د. حمزة الإكثار من القراءة في الآراء التي تخالف رأيه في هذا الموضوع.
في ص66 وص67 فوضى و(لخبطة على أصولها) حافلة بالمتناقضات التي قد يفسرها القارئ بالاستخفاف به، فالدكتور حمزة يؤكد أن الصحابة يسأمون من الوعظ وكان رسول الله يعي هذه القضية واللافت أن في كلامه ما يدل على أن الرسول يكثر من الوعظ بل ساق أحاديث دلت دون أن يدرك على كثافة الوعظ التي يتخوله الرسول لأصحابه. ويذكر د. حمزة (أن مظاهر التفلت من الآداب الإسلامية الملاحظ الآن في مجتمعنا ليس إلا نتيجة متوقعة لهذا الإغراق) يقصد الإغراق في الوعظ - وهذا الكلام سيقلل من مقبولية ما يكتبه د. حمزة لاحقاً إذ هو يعي أن كثيراً من البلدان الإسلامية الأكثر تفلتاً أخلاقياً يُمنع فيها الوعظ بوصفه ثقافة تطرف.
من تناقضات د. حمزة أنه يطالب بوأد بدع (الصحوة) (المتمثلة في النماذج الوعظة المحدثة كتجسيد الأموات بوأد بدع أمام الناس) في حين أن البدع غير الصحوية يجب أن تقابل بالتسامح كما أكد في صفحة أخرى.
د. حمزة يحاول محاولة غير موفقة في الفصل الحاسم بين خطاب الصحوة (المتطرف) وخطاب العلماء (المعتدل) يقول في ص114 (إن المعالجة الجذرية لما واجهناه من مشكلات طوال السنين الماضية تفرض علينا إعادة الاعتبار للمؤسسات الدينية الرسمية).
د. حمزة في لقاء النادي الأدبي حاول أن يطرح أمثلة للتفريق كانت تأكيداً حاسماً على عدم وجود فارق بين الخطابين وأنا أجزم أنه غير قادر على التفريق وستبقى معضلة تطارده وتطارد كل من يتبنون الخط الإصلاحي الليبرالي العشوائي، فالقراء يطالبون بعدم التناقض والتلاعب الذي هو أشبه بلعبة الاستغماية.
في ص70 وص71 لم يستطع د. حمزة أن يضرب أمثلة صحيحة على النموذج الفيتنامي والمناصرات الأمريكية ضد الجرائم في فيتنام وكذلك الانتفاضة الفلسطينية والمهاتما غاندي... ولم يتمكن من استثمار هذه التجارب لإثبات جدوى الحل السلمي لاسترداد الحقوق حيث لم يكن ايٌّ منها حلاً سلمياً بل كانت تستخدم القوة والاستفزاز فضلاً عن الظروف الاستثنائية جداً والتي لا يعوّل عليها مطلقاً في أي قياس من هذا النوع إضافة إلى أن المظاهرات الأمريكية المناهضة قد تكون بتحريك قوي معارضة للحزب الحاكم وليس مغزاها إنساني بحت.
في معرض ثنائه على العلماء السلفيين يقول في ص85: (فمن العوامل التي يرى المراقبون أنها وراء تقلص العنف توالي فتاوى العلماء السلفيين من دول الخليج) غير أن هذا قد يشي بتبعية هذه الجماعات للعلماء السلفيين تبعية الآمر والمأمور، بحيث استجابتهم لأوامر على شكل فتاوى وهذا من اللبس إلي وقع فيها د. حمزة دون قصد ولكنه نشره دون قصد أيضاً ولكن لهذا النشر تبعاته السلبية.
في ص 108 يستخدم د. حمزة المواطنة لمواجهة الصحوة ليفتعل حالةً من القلق بين الناس (المواطنون) والصحوة وهذا من حشد الخصوم على نحو لا يعدو أن يكون تكتيكاً عسكرياً لمحاصرة العدو الوهمي (الصحوة).. يستخدم د. حمزة مفردة (المواطنون) في غير موضع في صفحة واحدة (المواطنون يطالبون بتعليم..)، (المواطنون يطالبون بترسيخ..)، (المواطنون يعبرون عن ما يلحظونه من مآخذ).. السؤال لماذا مفردة (المواطنون) دون مفردة (أولياء الأمور). المؤكد أن لا مواطنين طالبوا أو عبروا ولكن د. حمزة طالب وعبّر نيابة عنهم وباسمهم ورغماً عنهم ولو حدث مثل هذا فهي حالات فردية لا تمثل (المواطنين).
في ص11 يتحدث د. حمزة عن الشيخ العبيكان بقوله (فقد أشار إلى أن أغلب هؤلاء ربما لا يمكن وصفهم بأنهم فقهاء ولذلك سماهم بحفظة ويعني أنهم ليسوا علماء بل مقلدون)... وردي هو أن التقليد هو قدر الجميع... المجتهد وغير المجتهد على حد سواء.. من المجتهد المجدد؟ هل الذي يجيز كشف الوجه مجدد؟؟ بل هو مقلد لمن أجاز الكشف ويطّرد هذا في كل متبع والمبتدع مقلد في الابتداع والمتطرف مقلد في التطرف والملحد مقلد في الإلحاد والعقلاني مقلد والمحتاط والمسهل في الشريعة كلاهما مقلد، ودعاة التسامح مقلدون.. فالتجديد اجتهاد استثنائي يحتاج إلى جهد مخلص للدين وليس للتجديد.. فأين المبدع والمجدد..؟ فبعد رسول الله لا يوجد مبدع ولا مجدد دون أن يكون مقلداً.
في ص112 ينتقد د. حمزة مستشهداً بقول العبيكان (يدلل أثر التقليد بعدم وصول المستغلين بالشأن الديني عندنا على حلول الكثير من المشكلات الجديدة..) إلى قوله (وأشار إلى عدد من القضايات المستجدة التي لم تصدر فيها الجهات الموكلة بالشأن الديني..) ومنها كما ذكر المساهمة والفتاوى المتضاربة في بعض القضايا) انتهى.. إن هذا الاستشهاد التأييدي هو يكرس لما يعارض إيديولوجية د. حمزة فكيف يوفق د. حمزة بين رفضه للتضارب في الفتوى والحرية في الاجتهاد وعدم الوصاية التي ينادي بها.
- بقية الملاحظات والتناقضات أعرض لها في الحلقة القادمة.
- الرياض
hm32@hotmail.com