(التبات والنبات) إعلان عن نهاية كل حكاية عجيبة، ولربما كان مناسباً أن يأتي ذكر هاتين الكلمتين في بداية هذا القرن العجيب، قرن خرجت فيه المرأة إلى النور وأمسكت بقلمها وكونت شخصيتها الأدبية ووضعت اسمها بوضوح أمام قرائها وتمسكت بحقوقها التأليفية. قرن عجيب نافست غرائبه الخيال فحلت فيه الطائرة مكان البساط الطائر، والتلفزيون مكان المرايا التي نرى فيها بلاد السند، والهاتف مكان الهاوند الذي يسمع صوته في بلاد الهند، والطب الحديث مكان ماء الحياة، والإنترنت مكان خاتم الملك.
قرن عجيب انتقلنا إليه من قرون كان الخيال فيها هو المصدر الوحيد لكل ما هو عجب عجاب، وكانت فيها الحكايات الشعبية تسلية الشعوب ومجال ابتكاراتها وشطحات خيالاتها. في أزمان تجرد واقعها أوجدت الحكايا بديلاً غنياً حرك الساكن وملأه بتفاصيل لامست المستحيلات.
كانت الحكايات الشعبية وبقيت كنزاً لا يفنى خُزنت فيه الثروات الميثولوجية والرموز السيكلوجية التي أفرزها الخيال الإنساني في ارتحاله الافتراضي بعيداً عن واقعه الصعب.
ولكن كثيراً ما يحلو لمناصري الأدب الرسمي الإنقاص من شأن الحكاية الشعبية كنوع أدبي له خواص منفصلة وذلك بالإدعاء بأنه موجه للأطفال فهو بذلك سهل غير ممتنع وتافه إلى درجة تمنعه من أن يدرج ضمن قائمة آداب الشعوب وثقافاتها. وكلنا يعلم أنه حينما يذكر الطفل يأتي ذكر المرأة تباعاً، وعلاقة المرأة بالحكاية الشعبية لها مدخل محدد: عندما يأتي المساء تروي الأم لطفلها حكاية تساعده على النوم بهدوء. المرأة (الأم) - راوية للحكاية الشعبية تحفظها وتحسن ترديدها، والحق أنه حين تنبه العلماء والباحثون الفولكلوريون إلى أهمية جمع الحكايات الشعبية من أفواه الرواة وجدوا أن أكثر هؤلاء الرواة وأحفظهم وأجودهم كن من النساء. وحينما قمت أنا شخصياً بجمع حكايات (التبات والنبات) في مدينة جدة وجدت أن جميع رواتي كن من النساء. ولكن تبين لي أيضاً ولغيري من المهتمين بالأدب الروائي الشعبي أن حفظهن للحكايات لا علاقة له بالأطفال بشكل مباشر، بل إن هنالك بعض الحكايات التي لم تكن لتروى أصلاً في حضرة الأطفال. أمر يثير الفضول أن تبقى الحكاية الشعبية لصيقة هكذا بالمرأة! غريب هذا الارتباط الوثيق بين المرأة وهذا النوع الأدبي البسيط الذي لا يتطلب علماً ولا كفاءات، شكله سهل لا يقتضي إجادة للغة ولا لقواعدها، مضمونه خيالي لا يستوجب معرفة بالحقائق ولا دراية بالوقائع، أبعاده محدودة لا تستلزم الاحتكاك ولا التجارب.
ماذا لو.. ماذا لو كانت المرأة والحكاية الشعبية متلازمتان لأن المرأة لم ترويها فقط.
ماذا لو أنها ابتكرتها؟؟؟
كيف بدأت حكاية الحكاية في سالف العصر والأوان..؟:
من قبل أن يكون للمرأة اسم.. كان لها تصور، ومن قبل أن يكون لها كيان أدبي.. كانت لديها القدرة على الابتكار، ومن قبل أن تمسك بالقلم.. عبرت شفاهةً، ومن قبل أن تتكون شخصيتها ككاتبة.. تبلورت ملكاتها الإبداعية.
في البدء كانت امرأة ذات خيال واسع، وهي بفطرتها مجبولة على النسج والغزل والحياكة، تمسك بطرف الخيط وتلفه وتمده وتعقده وتشكله كيفما شاءت ثم تفرطه لتحبكه ثانية: امرأة دارت في عقلها حبكات وحبكات، بعضها دبرت تصميمه، وبعضها جاءها عرضاً كما أملته مواهبها. امرأة لها هذه القدرات الكامنة، هل نتصورها قضت سنوات عمرها صامتة؟
امرأة ينبض عقلها بالحياة وقلبها بالإحساس، هل نتخيلها عاجزة عن تشكيل الكلمات التي تعبر بها عما يدور بخلدها؟
عندما قررت تلك المرأة الأولى أن يكون لها حضور، فتحت فمها لأول مرة وقالت: «كان يا ما كان..» فضربت بذلك من حولها أسوار الأمان. لن يحاسبها أحد على مضمون حكايتها إذا هي قطعت مرساتها وتركتها تبحر في أزمان غير زمنها وتطوف أماكن غير مكانها. هاهي قصتها تدور في زمن غابر يصعب تأريخه وفي مكان قاصٍ لا يمكن تحديده. من إذاً سيستشف ملامحها من خلف حجاب الزمان والمكان؟
وعندما اختارت تلك المرأة بطلتها قدمتها على أنها (واحدة بنت)، فزادت كثافة ذلك الحجاب وضاعت ملامحها الخاصة في شخصية وهمية لا اسم لها. وعندما تحدثت عنها لجأت إلى ضمير الغائب كصوت سردي لها، فبطلتها (هي) والناس من حولها (هم)، فدُفنت بذلك الأنا في الغياب الدائم.
(هي) البنت التي عاشت نصف عمرها في سرداب خوفاً من الغول وعاشت نصفه الآخر متخفية في ثوب من الليف. و(هي) البنت التي هربت من شراك رجل لئيم تتخفى في هيئة قهوجي حتى تنصفها الأقدار. و(هي) البنت التي فرت من ظلم والدها واختفت داخل ثوب من الجلد غطاها من رأسها حتى أخمص قدميها. (هي) البنت التي حبسها والدها تحت الأرض خوفاً عليها فحفرت الجدار بعظمة وزحفت إلى النور. و(هي) البنت التي حبستها الساحرة في برج لا باب له ولا درج فتجد في ضفائرها مخرجاً من سجنها. و(هي) البنت التي حبسها زوجها في غرفة على السطوح ليدخل في قلبها الهم فصنعت لنفسها رفيقة من العجين تسليها في الخيال. هي المرأة الأولى تعبر عن حال المرأة الوسطى والمرأة الأخيرة: خائفة مستضعفة، محبوسة هاربة.
ثم راحت المرأة ذات الخيال الواسع تغزل حول تلك البنت نسيجاً عجيباً لا يحكمه منطق أهل هذه الأرض فناقضت أحداث قصتها إمكانية حدوثها لبشر مثلها الآن وهنا، فقد أحاطت تلك الأحداث بالألغاز والأبواب السرية والكلمات السحرية والسراديب الغامضة، ثم أثرتها بالبساط الطائر وبمفاتيح الفرج وبعلب الصبر والجبر وبالحبوب الدرية وبخاتم الملك وبماء الحياة وبالمرايا التي ترى بها الدنيا، فشكلت هذه الأدوات الخلابة في مجملها غطاءاً سميكاً يخفي حقيقة العقل المدبر لها.
عوضت المرأة الراوية بهذا الخيال الجامح عن تسميرها في المكان، فحركتها محدودة والرجال من حولها يصولون ويجولون، يرحلون ويعودون، يشاهدون العالم ويقابلون البشر. وتظل المرأة حبيسة دوائر الانتظار الضيقة، وحتى يحين إياب الذكور تطلق هي العنان لخيالها يجوب بها كل البقاع وتتصور العالم البعيد وتلتقي بالجنيات والعفريتات اللواتي يساعدنها على الانطلاق خارج حدود المكان ويزرعن على كتفيها أجنحتها المقصوصة. في ركنها المنعزل تتسلل تلك البنت بخيالها وتحفر جدار القبو الذي يحفظها كشيء قابل للتعفن، تمسك بأي آلة حادة تقع عليها وتزيح التراب لتهرب من كوة صغيرة وترى شمس النهار فيملأها النور نشوة وبهجة، وتخرج في كل مرة وليس في توقعها من هذا العالم سوى الفارس الذي يمتطي صهوة الجواد الأبيض، يحملها إلى قصره ويتزوجها. في خيال هذه المرأة لا يوجد مفر من العودة إلى القبو، فالخروج من سطوة رجل يقود بالضرورة إلى الدخول تحت سطوة رجل آخر! أحلام بسيطة محكومة بواقع ثقيل تخشى حتى من كشفها للرجل فتكسوها كساء الخيال الذي يبعد شبهة مصداقيتها.
ولكي تنفي المرأة الأولى علاقتها بأحداث القصة كان لابد لها من الاختفاء الأخير. عندما تساءل السامعون والسامعات عن مصدر تلك الحكاية، تنازلت تلك المرأة عن حقوق التأليف وادعت بأنها مجرد راوية لحكاية لا مؤلف لها ووزعت بموت المؤلف دم التأليف بين القبائل! لأن المرأة تخشى من أن تنسب لنفسها الحكاية فتقع في فخ الاتهام والمساءلة فقد تركتها حقاً مشاعاً يدعيه كل راو وناقل.
وهكذا، وبدون رقيب أو حسيب، حاكت المرأة الأولى أجمل مشاعرها وحبكتها. اختبأت خلف أسوار السرد وتحكمت في الشكل الفني المناسب لتتحدث من خلاله عن أصدق أحاسيسها وأعمق أحلامها وأقصى أمانيها. توارت تلك المرأة بشخصها عن الأعين الفضولية والألسن المعترضة والأذان الرافضة ومنحت ذاتها رخصة الظهور: رمزاً حيوياً يعيش للأبد.
هذا ما بلغني يا أهل الرأي الرشيد من أمر الحكاية الشعبية: قصة شفهية بلهجة عامية بسيطة التركيب مغرقة في الخيال، غريبة المكان بعيدة الزمان مجهولة المؤلف. أيمكن أن تدعي ملكيتها امرأة شهرزادية؟ هل يمكن أن تكون هي الأم الشرعية لهذا النوع القصصي البدائي الذي يحدد نقطة البداية لنشأة الفنون السردية بكاملها؟ أهي التي صنعت فن الحكي يوم فتحت أبواب خيالها واختطفت من بين طياته حكاية وصفت بها ذاتها، وعبرت بها عن مكنون نفسها، واتخذت منها جناحاً لأحلامها وحكمتها في الحياة: حكاية غزلتها، نسجتها، حاكتها، دبرتها ثم دستها في حنايا خيال أمة؟
وهكذا.. مرت الأيام.. وتوالت الدهور.. وتوارت العديد من النساء المبتكرات خلف الحكايات وتركْن ذات الرمز الأنثوي المتوارث ينبض ويتحرك، يتطلع ويطمح، يتألم ويستمتع، ثم يحقق في نهاية الحكايات سعادة أبدية دائمة تتوق إليها الإنسانية في كبدها الأرضي، سعادة تتلخص في كلمتين: تبات ونبات.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712»ثم أرسلها إلى الكود 82244