(هل هو إثراء ثقافي أم فتنة اجتماعية)؟
- لا أحد يتعلم من التاريخ -!
التنوع هو أساس الحضارة الإنسانية، مُسلّمة لا أحد يستطيع أن يُنكرها، والحضارة الإسلامية القديمة قامت قواعدها على هكذا مسلّمة، فقد أدرك المسلمون الأوائل بأهمية الاستفادة من علوم وثقافات الأمم التي غلبوها وجهود أصحابها الذين ظلوا باختيارهم تحت سقف الدولة الإسلامية، لتأسيس حضارتهم، ولم تكن لديها حساسية متعلقة بمصدر عقيدة أو عرق العلوم والثقافات التي سيستفيدون منها؛ لأنهم كانوا يتعاملون مع الأشياء بروح تعاليم الإسلام التي تقدر الإنسان كونه إنسانا بصرف النظر عن عقيدته أو مذهبه، ولإقامة الاعتبارات وفق طبيعة العلاقات بين الأطراف والمنافع المشتركة والمتبادلة ومقدار ونوعية الإنجاز الحاصل من تلك الاعتبارات، لا بحرفيتها أو تفسيراتها الضيقة؛ ولأنهم أدركوا أنهم لا يستطيعون سدّ احتياجات العهد الجديد بأشكاله المتنامية، وأن ثقافة اليومي والآنية والعشوائية التي تعلموها من البيئة الصحراوية، لم تعدّ مناسبة للعهد الجديد، وفي ذات الوقت هم لا يعرفون غيرها، ولذا كانت الحاجة إلى الآخر المتبقي من الحضارات المنهزمة ضرورية لتعليم العربي كيف يتعامل مع المدنية المستجدة عليه، أي أن النفعية مشروطة منذ البدء في عقد الاندماج بين العربي والعرب المولدين وغير المسلمين؛ ولأنهم أيضا صمموا لأنفسهم معايير للاختيار من تلك العلوم والثقافات تتفق مع مبادئ وتعاليم عقيدتهم، والأهم أنهم لم يكتفوا بالاختيار والتقليد بل أضافوا هويتها الخاصة على النماذج المختارة من ثقافات وعلوم الحضارات الأخرى، وهي إضافة أسست أصالة الشخصية العلمية والثقافية الإسلامية القديمة.
ولولا السلام والمسالمة في التعايش والشراكة بين المسلمين وغيرهم من غير المسلمين والطوائف المذهبية الأخرى في المجتمع الإسلامي، ما تحقق الاختيار والإضافة، ولولاهما أيضا ما كان سيتحقق أي اتفاق وتعاون علمي وثقافي بينهم أسهم في بناء الحضارة الإسلامية، إذ إن ذلك التعاون الثقافي مثّلَ بلا شك محتوى المواطنة التي اجتمع حولها جميع من عاش في ظل الدولة الإسلامية.
والنقطة المهمة حسبما أرى أن ذلك التعاون الثقافي بين المسلمين والأقليات سواء من الطوائف الإسلامية المختلفة أو غير المسلمين، كان يُسهم في إيجاد توازن القوى بينهم جميعا، مما يُذيب الإحساس بتفوق فئة على أخرى، فإحساس الأقليات في المجتمع الإسلامي القديم بممارسة دور مهم ووظيفي في تأسيس الحضارة الإسلامية كان يُشبعها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ويجعلها فئة وظيفية ومصدر إغنائيّ للمجتمع وعنصر مُشارك في تطوره وتطويره، ويجعلها في صف موازٍ مع الفئة التي تمثل الأغلبية، مما قربها من مركز القرار السياسي، وحينا شاركت في التأثير فيه وصياغته، مثلها مثل الفئة الأغلبية، وهذا كان بدوره يعني تحقيق جوهر العدالة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي القائم على الكفاءة لا العرق، وهو أمر بلا شك كان من أهم أسس نجاح الحضارة الإسلامية.
لقد كانت كلمة السر في إيجاد تعايش سلمي ومشترك بين المسلمين والأقليات المختلفة في ظل الدولة الإسلامية القديمة، هي (التوازن بين قوى المجتمع المختلفة)، فالحكومة الإسلامية القديمة التي كانت تتمثل في الخليفة كانت سنية، - قبل تحولها إلى شيعية - وكانت طبقة الوزراء والكتّاب عرب من أصول فارسية، وقد أُعطي لهم هذان المنصبان كاعتراف من قبل العباسيين لجميل العرب الفارسيين لمساعدتهم في إسقاط الدولة الأموية، أما طبقة المثقفين والمترجمين ومديري المكتبات الخاصة للخلفاء فكانوا من غير المسلمين في العهد الأول من الدولة، وبذلك فكل فئة كانت تمثل دوراً ووظيفة يمنحانها قوة موازنة مع غيرها بصرف النظر عن نوع تلك القوة، فالمهم قيمتها وتأثيرها في صناعة القرار الاجتماعي، وهو ما شجع تلك الفئتين على الاندماج داخل منظومة المواطنة الإسلامية في مفهومها النفعي وليس الانتمائي، فالنفعية من نتائج المواطنة، وليس من شروط المواطنة، في حين أن الانتماء شرط رئيس للمواطنة، لأنه لا يدفع الفرد لتوثيق علاقته بمجتمعه عبر عقد مشروط متكافئ الأخذ والعطاء، وجدولة مسعّرة لفعلي الأخذ والعطاء، أي (أحب مقابل، وأخلص مقابل، وأنتج مقابل)، ومع أن المقابضة تسعّر المواطنة، إلا أنها تضمن في حدود معقولة حقوق الأقليات في أي مجتمع، وتضمن الاستمرار النفعي للتنوع الديني والطائفي للمجتمع، وخطورة هذه النقطة، أن انتفاء هذه النفعية يُخسّر المجتمع فوائد التنوع الديني والطائفي، لأنها جوهر عقد الشراكة، ويسهم في اختلال توازن القوى فيه، وتلكما- انتفاء النفعية واختلال توازن القوى - تؤديان إلى إشعال الفتنة الدينية والطائفية في المجتمع.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
-جدة
seham_h_a@hotmail.com