* أهو المال الذي يقوّي القلب إلى هذه الدرجة؟!
* قال: ربّما، وكذلك ضغط العمل، وإيقاع الحياة اليوميّة المتسارع، هناك، كلّ ذلك يملأ الوقت والقلب!
فاجأتني أفكار ذلك القريب، الذي قضى عمره بعيداً! عاش في أوربّا، من غير أن يفكّر بزيارة الوطن أكثر من مرّات ثلاث خلال ثلاثين سنة، واليوم حينما تقاعد، وغادره بنوه كلّ إلى مكان من هذه الأرض الواسعة، وصار كما يُقال، رجل في الدنيا، ورجل في الآخرة، جاء ليموت بين أهله، بل ليخدمه أهله، ريثما يموت، حين انفضّ عنه الآخرون هناك، ومنهم أبناؤه.
إحدى الجدّات في بلدنا كانت تقول عن ابنها الذي اغترب، ولم يسأل عنها: أكل لحم الخنزير، وتخنزر! وأخرى كانت تقول: خيرهم للغريب في حياتهم، ولنا سماد جثثهم!
لم أرد أن أخوض كثيراً في هذا الموضوع مع قريبي العائد من غربته، لأنّي على قناعة، بأنّ تجربته في الغربة قد أخذت أبعادها، وأنّ نقاشنا سيكون ضرباً من السفسطة، ومهما حاول إقناعي سأواجهه بعبارة: (إذن لمَ تأتون لتموتوا هنا؟) وأنا لا أريد أن أجرح مشاعره. لكنّي بقيت أفكّر ونفسي في الكلام الذي قاله...
قال إنّ الوطن بالمفهوم النوستالجي الذي أتحدّث عنه، مجرّد وهم، وإنّ المواطنة هي مجرّد عقد على طريقة (روسّو)، والوطن هو أي مكان في العالم تستطيع العيش فيه بكرامة...
قد يكون الكلام صحيحاً من باب احتمال صواب الرأي الآخر فحسب، وليس من باب قناعتي، ذلك أنّي أعدّ نفسي منفتحة الأفق، ولكن إذا كان الكلام صحيحاً، فما بال الحنين إلى زواريب حارتي يتلبّسني، حتّى لا أستطيع فكاكاً، فأستغلّ أوّل إجازة ولو كانت يومين وأسافر، إلى حيث تقرّ العين، وما بال أولئك الذين يحلمون، ويعملون، ويسجنون في سبيل وطن لم يشاهدوه إلاّ على شاشات التلفزيون! وما بال أولئك الذين يذوقون السمّ والدم كلّ يوم، ويصرّون على البقاء في وطنهم، كي لا يتركوه للغرباء! هل هم جميعاً مجرّد رومانسيّين واهمين!
أظنّ أنّ الناس لن يتّفقوا على ذلك، فهم دائماً في هذا الموضوع فريقان، وذلك بحسب طبائعهم، فهم إمّا يفكّرون بالعاطفة، وإمّا بالمصلحة. وكنت قد قرأت مرّة أنّ محبّة الوطن مستولية على الطباع، وأنّ من علامات الرشد أن تكون النفس إلى بلدها توّاقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة.
وقد روي أنّ (أبان) قدم على النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: يا أبان، كيف تركت مكّة؟ قال: تركت الإذخر وقد أعذق، والنمام وقد أورق، فاغرورقت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وكيف سنتنكّر لشعر تربّينا عليه، وصار جزءاً من تكويننا الثقافيّ، وكلّه يقول بالوفاء، وبالتعلّق بالأوطان، بدءاً بوطني لو شغلتُ بالخلد عنه، إلى بلادي وإن جارت عليّ عزيزة، إلى أبيات أخرى كثيرة، طالما ترنّمنا بها، وممّا أردّده دائماً، في أشدّ حالات التذمّر، من وضع اجتماعيّ، أو سياسيّ، أو اقتصاديّ ما، قول الشاعر:
بلاد ألفناها على كلّّ حالة
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
ونستعذب الأرض التي لا هوا بها
ولا ماؤها عذب، ولكنّها وطن
ولست أظنّ أنّ أقوال الشعراء المضادّة لذلك، أكثر من فورة غضب، أو ممارسة لمركزيّة الأنا لدى الشاعر، أو تكريس لنموذج الفحل في الثقافة العربيّة، الذي كثيراً ما يسير على مبدأ (خالف تعرف)، وقد يكون الأمر مجرّد مواساة لمن ابتلاهم اللّه بفقد الأوطان، إذ يقول الفرزدق:
وفي الأرض عن دار القلى متحوّل
وكلّ بلادٍ أوطنتك بلادُ
وقال آخر:
وإذا البلاد تغيّرت عن حالها
فدع المقام وبادر التحويلا
ليس المقام عليك فرضاً واجباً
في بلدة تدع العزيز ذليلا
وآخرون سخروا من أوائل في تعلّقهم بالوطن، وعارضوهم، كما فعل (الحلّيّ) مع (امرئ القيس)، إذ يقول:
تنقّل فلذّات الهوى في التنقّل
ورد كلّ صافٍ لا تقف عند منهلِ
ففي الأرض أحباب وفيها منازل
فلا تبك من ذكرى حبيب ومنزلِ
وإنّ حادثة لن يدرك كنهها إلاّ من عاين موقفاً في غربة، فيه مفاضلة بين مواطن ووافد، وهي أنّ (إياس بن معاوية) مرّ بمكان، فقال: أسمع صوت كلب غريب، فقيل له: بم عرفت ذلك؟ قال: بخضوع صوته، وشدّة نباح غيره!
ألا يفسّر ذلك عدم سماع أصواتنا في المغترَبات، وإدارة ظهر المجنّ لرغباتنا...
قد يعدّ البعض التفكير في هذا الموضوع مضيعة للوقت في زمن القرية العالميّة، أو العالم الواحد، ولكن لمَ، بعد هذا العمر، لا تدور أحداث مناماتي إلاّ في بيتنا القديم، هناك في الحارة؟ ولم عاد قريبي بعد هذا العمر ليموت في وطنه!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244