ما الفرق بين التعلّم والتقليد، وما هي المسافة بين الوافد والموروث؟.. سؤالان يطرحهما النقد الأدبي العربي المعاصر، منذ أن اعتقد بعض العاملين فيه أن خير المعارف ما جاء من الغرب، وأن أفضل سبل المعرفة يتمثل في استظهار الوافد، كما هو، دون زيادة أو نقصان، ولأن لثقافة الغرب بيئتها وتاريخها ومناهجها، المختلفة اختلافاً كبيراً عن بيئة الناقد العربي وثقافته، يقوم هذا الأخير باختصار مدارس النقد الأوروبية إلى كلمات محدودة لا تنقصها (الفخامة)، تأخذ الكلمة المكتفية بذاتها، عندها، أبعاداً سحرية موهمة بأمرين: أنها قادرة على شرح النص الأدبي شرحاً وافياً ضافياً لا خلل فيه ولا اضطراب، وأنها تقول بجديد حاسم لم يسبقها إليه أحد.
في أواسط القرن الماضي تقريباً، وقع النقاد الماركسيون العرب على كلمة (الوضع الطبقي)، التي كانت تشير إلى الأصول الاجتماعية للأديب، وتحدد وعيه وسلوكه وطرائق تفكيره وتعامله مع (المواد الأدبية) المختلفة المستويات، سواء كانت الكلمة الوافدة صحيحة أو مجزوءة الصحة، فقد اكتفى الناقد الماركسي بالكلمة وحدها، على اعتبار أنها تجسيد للحقيقة ودرب إليها في آن، فالأديب يختار هذا الشكل أو ذاك بسبب (وضعه الطبقي)، دون الاعتراف بالشكل وتأمل العناصر المكونة له، والشخصية الروائية تتقدم أو تتراجع وتموت وتحيا مدفوعة ب(الوضع الطبقي)، والحوار بين الشخصيات الروائية، كما استعمال اللغة بعامة، محكوم باعتبارات طبقية، كل شيء يبدأ أو ينتهي ب(الطبقة) وكل شيء يتكون أو ينحل لأسباب طبقية، نسي النقاد هؤلاء في غمرة حماسهم أمرين: تعريف الطبقة وتعريف العمل الأدبي، معتقدين أن الحقيقة لا تقوم في الواقع بل في الكلمات، بعد تراجع الاتجاه الماركسي، بدءاً من منتصف سبعينيات القرن الماضي، جاءت كلمة سحرية جديدة، لا تقل عن الكلمة الأولى وثوقاً ولا غطرسة: هي البنية، وإذا كانت الكلمة الأولى قد سقطت على النقد العربي آتية من موسكو ومن الأدبيات الماركسية بشكل عام، فإنّ الكلمة الجديدة جاء، هذه المرّة، من أوروبا، ومن باريس تحديداً، رفعت الكلمة رايات أسماء كثيرة، ليس آخرها بارت وغريماس وكريستيفا، بيد أن اختلاف الكلمة لم يمنع عنها عمومية الكلمة التي سبقتها: النص الأدبي بنيته، والبنية النصية هي التي تحدد وضع علاقاته، ومعنى النص من معنى البنية المكونة له، ووضع الشخصيات ووظيفتها أثر للعلاقات البنيوية، وكما كان (الوضع الطبقي) قادراً على تفسير الشيء واللاشيء، أصبحت (البنية) مفتاحاً يفتح أبواب جميع الغرف الموجودة والمتخيلة، نسي (البنيويون) في غمرة حماسهم أمرين: أن بنية العمل الأدبي لا معنى لها خارج الثقافة الأدبية المرتبطة بمجتمع معين، وأن للمنهج البنيوي سياقاً تاريخياً خاصاً به، ذلك أن رولان بارت وصل إلى منهجه وهو يساجل منهجاً فرنسياً آخر، بعد أفول البنيوية السريع ارتفع نجم مدرسة غربية جديدة هي: التفكيكية، المنسوبة إلى الفيلسوف الفرنسي الراحل حديثاً: جاك دريدا، تخلى، لحظتها، البنيويون العرب عن بنيويتهم، كما تخلى الماركسيون السابقون عليهم عن ماركسيتهم، وذهبوا إلى (التفكيك)، حيث نقد العمل الأدبي هو تفكيكية، استدعى ذلك إعادة تركيبه أو لم يستدع ذلك على الإطلاق، وحيث (الحقيقة) متاع ميتافيزقي، والتقدم الإنساني خرافة، ناهيك عن (المسكوت عنه) و(لاوعي النص)، وصولاً إلى اتهام العقل والتشكيك بالموجود وغير الموجود، نسي التفكيكيون العرب، كالعادة، أمرين: أن فلسفة دريدا محصلة لقراءة طويلة متأنية للموروث الفلسفي الغربي كله، وأن فلسفته (المضطربة) تقبل بأكثر من تأويل، كما أعلن أكثر من مرة، وأن الكثير من المنتسبين إليه يسيء فهم فلسفته.
لا يدور الحديث، بداهة، عن رفض الغرب ومعارفة، بل يدور حول ولع التقليد والاحتفاء ب(السلع الفكرية المستوردة)، ذلك أن المطلوب هو التعلم وليس التقليد، والمطلوب أكثر قراءة الثقافة الغربية من وجهة نظر الثقافة العربية، وضرورة التمييز بين التعلم الحقيقي والتعلم الزائف.