إلى روح الشاعر الكبير عبدالله الجشي رحمه الله بين غربته في (العراق) وغربته في الوطن
فصِّل غيابك باتساع رثائي
لأخيطه بقصيدة عصماء
وأَسُدّ في جسد البلاغة طعنة
فضت بكارة كل (حرف هجاء)
يا واصلاً (ألف) البديع ب(يائه)
كيف احتفلت بما وراء (الياء):
هل أنزلتك الأبجدية باسمها
ضيفاً على الأبدية الفيحاء؟!
هل قابلتك فخامة الفكر التي
تمشي على سجادة حمراء؟!
ليس الحياة هناك كفؤ سؤالنا
عنها فما في الغيب غير شقاء
فتعال للذكرى نضيء سراجها
بالحرف حيث الحرف زيت وفاء
هذي القرى زحفت بكل قطيعها
ظمأى تؤمل منك نهر غناء
فاستقبل الأضياف من نخلاتها
ورمالها وشطوطها الخضراء
وأنا الذي مازلت في أهل القرى
شفة (القطيف) على فم (الأحساء)
فاذبح لنا نهر الغناء ورونا
بأرق ما فيه من الأصداء
وانظر لروحك من وراء حجابها
تنحل في جيلٍ من الأبناء
(..................)
أ(أبا قطيف).. أقل عثار فسيلةٍ
تشدو بحضرة نخلةٍ شماء
فالموت قد خطف القصيدة من فمي
خطف العروس بليلة الحناء
تب المجاز فما يزال خطيئة
حبلى بكل حبائل الإغواء
والشعر أن نجد الخطيئة ثيبا
فنجوزها لخطيئة عذراء
نحن الذين تحصنوا بجنونهم
حيث الجنون حصانة الشعراء!
يا عابر الدنيا عبور نبوءة
كنت الرؤى فيها وكنت الرائي
ظمآن يرضعك الهجير حليبه
بظهيرة ريانة الأثداء
فإذا البلاد على اتساع مدارها
طوق بجيد حمامةٍ ورقاء
وإذا هديلك بالهموم ملبد
ومكبل بسلاسل الصحراء
فسريت برقاً هائماً متجولاً
في الأفق وسط سحابةٍ عمياء
وبحثت ما بين الجهات فلم تجد
جهةً مجردةً من الأسماء
عبثاً تفتش عن شعار.. زِيُّهُ
في الأرض أن يبقى بلا أزياء!
لابد من جهة إذن.. لابد من
اِسمٍ يقود الذات للأضواء!
مد (العراق) إليك نهر (فرات)ه
ينساب في لججٍ من الآراء
وعجمت ماء النهر تنشد موجة
باسم الخلاص تفض سر الماء
حتى إذا أدركت أن خلاصنا
في الشعر.. في المعنى البعيد النائي
ضجت دماؤك في العروق يتيمة
كقصائد بدفاتر الغرباء
في عزلةٍ مثل الجنين مبوأً
عرشين من ماءٍ ومن ظلماء
ما كنت قوقعة على شط الأسى
منسيةً في رملة الأرزاء
كنت الشراع على (البحور) مجليا
عن طائر الأسطورة الزرقاء
قلق.. تربي الريح من نسمائها
حتى هدير الصرصر الهوجاء..
والشعر ما هو غير حيرة كائن
متورطٍ في جوهر الأشياء!
شدتك لؤلؤة الأنا ببريقها
في القعر من أعماقك البيضاء
فسبحت بالكلمات نحو محارةٍ
تعصى على التأويل والإيحاء
وأضاء نور الغيب وانفرج المدى
عما وراء الغيب من إغراء
فهل انتزعت عن المحارة قشرها
وبلغت سر اللؤلؤ الوضاء؟!
أم عدت مثلي مدلجاً في خيبة
تفتر عن سفن بلا ميناء؟!
يا قارئ الأنداء في قطراتها..
لك ما يجول بخاطر الأنداء!
ولي الهواجس حين تهجس وردة
بهموم ما حملت من الأشذاء
فأنا الذي -منذ الوجود- وجدتني
أعمى ولم ألبس قميص عمائي
أحرقت كل ملابسي بوساوسي
لأعيش ملء تجردي وعرائي
شكي يقلبني على حسكاته
مما يهدد بالسقوط سمائي
أنا في الطريق إلى الحقيقة، إنما
أطوي الطريق ببغلةٍ عرجاء!
تلد الغبار قصائدي وكأنها
خطوات قافلتي على البيداء!
غنيت لا طرباً هناك وإنما
ألوي سواعد خيبتي بغنائي
غنيت حد تبرمي بمصائري
وعناصري.. غنيت حد عوائي!
ومشيت لكن ما مشت قدمي معي..
وجلست ما جلست معي أعضائي!
لم أنتبه أن الطريق طويلة
حتى سمعت بها لهاث حذائي
وهممت أشكو للرفاق فلم أجد
منهم سوى ظلي: رفيق شقائي!