الإعلام ذاته لم يعد إعلاما محضا ولا الثقافة ثقافة محضة؛ حيث تداخلت المهمتان في الكثير من أدوات التعبير. فإعلام الفضاء أصبح ثقافة أدائية وثقافة حوارية وثقافة إجتماعية وثقافة أدبية وفنية وتقنية.
كيف تدير الإعلام والمؤسسة الإعلامية المقروءة منها والمسموعة والمرئية. هذه مهمة ثقافية تتطلب الوعي وترتبط بدراسة سيكولوجية لطبيعة المتلقي.
ويعتقد البعض أن الثقافة المرئية جمعت المقروء والمسموع مع المرئي. هذا صحيح إلى حد ما، ولكن هذا الجمع يؤكد أهمية المقروء والمسموع كلٍّ على انفراد كأدوات تعبير في ذات الوقت. فالصوت هو أداة إعلامية هامة وله تأثير فسيولجي أكثر من الصورة لو جمعناهما سوية. فلو جمعنا موضوعا مرئيا وسمعيا في أية عملية برامجية أو في أغنية لكان تأثير السمع أكثر من تأثير الصورة على المتلقي. وهذا ما يؤكده العلم. فالصوت يبقى مدويا في ذات الإنسان ولا يزول لسنوات طويلة وربما لسنوات العمر. وخاصة عندما تكون لوحة الاستقبال البشرية في طراوتها قبل أن تزدحم فيها صور الحياة وأصواتها. كثير منا لا يزالون يرددون أغاني سمعوها في فترة الصبا، نسمعها ونحن في مرحلة التعب. واختبارات سمع الأطفال في السنوات الأولى للولادة قائمة أيضا على مثل هذا العلم وهي اختبارات ساحرة وجميلة وممتعة، وتؤكد آلات الفحص حقيقة تأثير الصوت علميا وله حسابات فيزيائية في الاستقبال ودرجة التلقي واتجاه الصوت، وهذا ما لا تنتبه إليه القنوات الفضائية العربية. ولعل سبب إخفاق الأعمال الثقافية العربية ومنها السينما وبرامج التلفزة الفضائية يعود إلى عدم إدراك أهمية الصوت في العملية الإبداعية. ويتساءل البعض لماذا صوت الفيلم العربي غير نقي أو مدغم كما الصوت في الفيلم السينمائي أو البرنامج التلفزيوني في الغرب. هناك عوامل كثيرة في وجود هذا النقاء أو الإدغام الذي يقابله صوت مكتمل الشروط في الفيلم الغربي. يعود الصوت إلى التقنية والحس لمهندس الصوت ويعود إلى تحميض الصوت بعد تحويله من المغناطيسي إلى الضوئي حيث يتم عربيا وبسبب فقر الإنتاج وبسبب الجهل في أحماض مستعملة كثيرا أو غير نظيفة وغير مخلوطة بنسب نظامية كما تعود رداءة الصوت إلى الأداء، أداء الممثل أو المعلق السينمائي والتلفزيوني.
هذه مقدمة لابد منها في مناقشة الإعلام الفضائي العربي في حرب لبنان الأخيرة التي كادت أن تتحول إلى حرب أهلية طاحنة وربما هي مقدمة لحرب أهلية قادمة أو ربما تؤدي إلى حرب استنزاف بين الأطراف المتصارعة على الساحة اللبنانية.
اعتادت الفضائيات العربية وتقليدا (مستمرا) لفضائيات الغرب في الإعلام أن تضع عناوين في تغطيتها المستمرة للأحداث الكبيرة التي تدور في المنطقة. فمثلا في حرب الخليج كانت عناوين بعض المحطات (ثعلب الصحراء) وبعضها (الحرب على العراق). فهذه القنوات لا تضع عنوانا منحازا لأن الإنحياز المسبق لأحد أطراف الصراع يبعد الموضوعية في نقل الخبر واستقباله من قبل المتلقي العربي. وهذا العنوان يقلل عدد المتابعين للقناة، وأنا كنت ميالا لمتابعة أحداث لبنان من خلال إحدى القنوات الفضائية العربية فاضطررت لأن أنتقل إلى قنوات أخرى بديلة لمتابعة الأحداث بسبب العنوان المنحاز مسبقا.
يقال في هذا المجال (لا يوجد إعلام غير منحاز) هذا رأي فيه الكثير من الصحة ولكن الإنحياز هو عملية ذكية والانحياز نسبي في كشف الحقائق الموضوعية ويجب أن يتسم بالذكاء العالي والوعي المتميز في قيادة المؤسسة الإعلامية وهذا لا ينعكس فقط على سياسة المؤسسة الإعلامية فحسب بل على جميع العاملين في تلك المؤسسة، الكوادر التي تؤدي البرنامج والكوادر التي تنجز الفواصل الإعلامية والإعلانية. هي عملية إبداعية وعلمية ليست سهلة. وفضائياتنا لا تزال في طريق الخبرة وفي طور التجربة. وهنا تأتي مسألة الإنحياز في الموقف وكيفية التعاطي معه بحيث يخرج الإعلامي سالما بمعنى موضوعي حتى وإن كان منحازا. وعوامل الإنحياز متنوعة وكثيرة شعورية ولا شعورية. فتاريخ الإعلامي وجذور انتمائه العرقي والديني ومستوى وعيه كلها تلعب دورا في حجم هذا الانحياز والاقتراب نسبيا من الموضوعية أو الابتعاد عنها. كنت أتمنى على القناة التي أحب متابعتها أن يكون عنوان التغطية لأحداث لبنان (الحرب اللبنانية) أو (لبنان في الحرب) أو حتى كلمة (لبنان) ومن داخل هذا العنوان وبتفاصيل كثيرة يمكن تحديد كثير من المواقف التي توصل المؤسسة الإعلامية إلى الهدف الذي تتوخاه ولكن ليس بالطريقة الإعلانية التي نضعها في الواجهة وتشكل انحيازا مسبقا وبامتياز.
إن الإعلام غير الذكي بشكل عام ولكافة الفضائيات العربية قد قدم خدمة دون أن يدري لغير الهدف الإعلامي الذي كان يستهدفه، لأن الصورة التي كانت تظهر على الشاشة كانت متناقضة تماما مع الصوت الذي كان مقدمو البرامج يؤدونه والمعلومة التي كانوا يقدمونها. الصورة كانت متناقضة تماما في الفضائيات عن الصوت والتعليق والمعلومة وهي تصلح للإذاعة أكثر منها للتلفزة. حتى أن بعض المذيعات في بعض الفضائيات اعتبرت أن الحرب في لبنان موجهة ضدها شخصيا، ضد انتمائها وعرقها فضاعت وسط الذاتية غير الواعية والإعلانية الواعية الكثير من الحقائق التي كان يمكن تحليلها وتقديمها للمشاهد بطريقة تضع فيها المتلقي في حقيقة الصورة ويكون الإعلام قد أدى مهمته المقدسة ومسؤوليته الخطيرة في الحياة المعاصرة للمنطقة التي تغلي والتي قد تنفجر اليوم أو غدا.
لو عدنا قليلاً إلى الوراء في قراءة الإعلام والثقافة ودورهما المتفاعل، وانتبهنا مليا إلى السياسة الإعلامية لمدينة هوليوود الثقافية والتي حسبت على مديات طويلة لا نزال نلمس قوتها وتأثيرها اليوم في ثقافتنا المرئية وإعلامنا المرئي. لو عدنا إلى الوراء لنتعرف على ذكاء المجموعة المالية التي اجتمعت في مدينة بال في سويسرا تحت شعار الوطن القومي لليهود والتي قادها هرتزل عام 1897 وتابعنا وثائق المؤتمر بتفاصيلها لوجدنا بندا إعلاميا يتعلق برسم سياسة إعلامية لمديات قادمة. وعندما إنعقد هذا المؤتمر في ذلك العام كان عمر اختراع فن الصورة المتحركة ثلاث سنوات بالطريقة التي حركها الأخوان لومير في فرنسا على الشاشة عام 1894م وثمان سنوات على طريقة تحريك الصورة من قبل توماس أديسون عام 1899 في أجهزة الكنتوسكوب. أدركت المجموعة المالية السياسية أهمية وخطورة الصورة فتبنى المؤتمر اختراع فن الصورة المتحركة وقرروا استثماره لصالح القضية اليهودية فدعموا الشركات السينمائية وحولوها إلى شركات عملاقة عن طريق الدعم المالي في استثمار السيولة النقدية للمصارف لصالح مدينة هوليوود. كان الهدف من ذلك إعلاميا، ولكن الوسيلة كانت ثقافية وهي السينما. هذه السينما التي لعبت دورا كبيرا في تشويه الشخصية العربية وبشكل غير مباشر ودمرت مشاعر الشعب الروسي تحت وطأة النظام الشيوعي في تقديم حياة أمريكية غامرة بالسعادة للفرد الأمريكي، وصار كل مواطن شيوعي في كل المنظومة الاشتراكية لا ينظر إلى القصة السينمائية وفكرتها وأحداثها بل كان المشاهد الشيوعي ينظر إلى السيارات الفارهة التي يستعملها أبطال القصة الأمريكيين والملابس الحديثة التي يلبسونها والممثلات المترفات بأجمل تصاميم الأزياء في الفيلات الأنيقة معتقدين بأن هذه الحيوات هي السائدة في الحياة الأمريكية للفرد فيما المواطن الشيوعي كان ينتظر عشر سنوات للحصول على سيارة من البلاستيك وشريطة أن يحمل بطاقة الحزب. وهكذا لعبت الصورة دورا كبيرا في تحطيم ثقة المواطن الشيوعي بنظامه وأصبح قابلا للانهيار في يوم واحد .. وهو ما حصل على الأرض. ولا تزال استراتيجية مؤتمر بال الإعلامية تطبق حتى الآن وهو ما جعل مركزة الصورة وقوانين الأقمار الاصطناعية تحت هيمنة المؤسسات المالية لليهود في العالم.
نأتي نحن بالمقابل لنقدم ثقافة إعلامية غير متوازنة غير مدروسة تدعمها دول ومؤسسات مالية بأرقام خيالية متمثلة في نفخ الميزانيات مقابل ليس اللاشيء بل مقابل دفع الهدف النبيل بالاتجاه المعاكس. وهذا ما ينتج عنه الخراب الإنساني والإجتماعي. وصورة العراق التي لعب الإعلام دورا خطيرا في تفكيك المجتمع العراقي وتخريبه، هذه الصورة هي ليست صورة بل هي واقع سوف ينعكس على دول المنطقة وبوادره ماثلة أمامنا في الحرب اللبنانية التي اشتعلت والتي هي غير منفصلة عما حدث ويحدث في العراق.
لا يستطيع بالطبع أي أحد أن يقف ضد تيار الإعلام الحاضر لأن الإعلام يخرج من هيمنة الدولة إلى خصخصة الإعلام وباتت بعض الدول تمنح حرية نسبية للعمل من أراضيها في إطلاق الصورة الفضائية. ومناقشتنا هنا لطبيعة هذه المؤسسات ورؤيتها الإعلامية ينطلق في إثارة الجدل وصولا إلى الحقائق الموضوعية ليس غير.
لو نظرنا إلى شاشات القنوات الفضائية العربية والإسلامية خلال فتيل الحرب الذي اشتعل في لبنان، لوجدنا أن القنوات تحولت إلى قنوات صوتية وليست مرئية. والصوت والتعليق والآراء للمحللين والسياسيين التي كانت تصلنا لا علاقة لها بأي حقيقة بصرية على الشاشة. فالمقابلات هي صوتية فقط تقدم من مركز الحكومة بدلا من بلاتو القناة أو من بلاتو المراسل بدلا من غرفة الأخبار. كل المذيعين والمعلقين يقولون ما يتمنونه معتقدين بأنهم يتحدثون عن الحقيقة القائمة على الأرض. أنا هنا لا أستهين بحجم الحدث ولا بمخاطره، ولكن الحدث كان مخفيا وليس ظاهرا. والصورة التي كانت في مواقع الأحدث لم أشاهد منها سوى بضعة مسلحين وأغلب الحواجز كانت حواجز للجيش اللبناني وليس للمسلحين. وكان بالإمكان أن تذهب الكاميرا (وبسهولة) أو لأقل بدون صعوبة إلى مواقع كانت مهيمنة عسكريا على الشوارع والساحات، ولكن عدم موضوعية القناة حالت بمنع وسائل الإعلام الوصول إلى تلك المواقع لأن الإنحياز الإعلامي كان واضحا في عنوان التغطية وخلق ردة فعل في قبول واستقبال مراسلي وكاميرات تلك القنوات الفضائية. الكاميرا هي الكاميرا ولكنها تحتاج إلى من يقف وراءها لكي يستخدمها بقدرة عظيمة في كشف الواقع الموضوعي.
إن سيطرة تيار معين على شوارع العاصمة اللبنانية يعني وجود كثافة عسكرية وسلاح حتى يتمكن من إنجاز مهمته العسكرية بنجاح بغض النظر عن نجاح أو فشل المهمة الستراتيجية. وكان بإمكان الكاميرات والمصورين أن ينجزوا مهامهم بحرية لولا عوائق الموقف المنحاز عبر عنوان التغطية، فضاع ما كان يجب أن نراه، بل إن بعض الأشرطة التي أتيح لبعض المراسلين تصويرها قد تم تهشيمها من قبل المسلحين كردة فعل على الإنحياز وفقط من خلال عنوان التغطية والذي كان بالإمكان تحقيقه عبر عملية تتسم بالحرفية العالية. إن ما حصل في شوارع العاصمة اللبنانية، ومن ثم كل لبنان لم يحصل بشكل مفاجئ، بل إن كل المؤشرات تؤكد وجود تمرينات مسبقة غير محسوسة، ولذلك تمت بسرعة كادت أن تفرغ العاصمة من سكانها. يقابل ذلك هجمة غير مدروسة للقنوات الفضائية.
لا أتصور أن مهندس القناة السياسي والإداري قد عمل اجتماعا تداول فيه مع عناصره خطة العمل الإعلامية ووضع منهجا للعمل قادرا على مواجهة التحرك العسكري الذي نفذ بحسابات عسكرية دقيقة، كان ينبغي أن تكون حسابات الإعلام أعلى بكثير ومرسومة بدقة فتعكس حقيقة وتسجل تأريخا يتسم بالحقيقة الموضوعية وبالقيم الفنية والوثائقية على حد سواء.
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244
- هولندا
sununu@wanadoo.nl