لم أستطع يوماً أن أقيم علاقة شخصيّة لا مع ناقة، ولا مع جمل، ربّما لأنّنا لم نعد نسكن الصحراء منذ أمد طويل!
لا تتعدّى معرفتي الواقعيّة بكلّ من الجمل والناقة حدود المعرفة السياحيّة، لكنني أعرفهما جيّداً عبر النصّ، والنصّ الشعريّ بخاصّة، ومع ذلك أستطيع أن أقول إنّ علاقتي الأنثروبولوجيّة- الثقافيّة بهما علاقة قويّة، لا يمكن أن يفصم عراها فاصم.
قد تبدو العلاقة بين العربيّ والناقة للناظر من خارج النسق الثقافيّ العربيّ شغفاً متطرّفاً، لكنّ الاستناد إلى بعض مقولات علم الجمال سيسوّغ ذلك الشغف، لاسيّما المقولة التي تجد أنّ الجميل هو النافع، والتي قام عليها جزء من الوعي الجماليّ عند العرب قبل الإسلام، فالتعايش، والحاجة، والتلبية وثّقت العلاقة بين العربيّ والناقة، وطوّرتها من علاقة نفعيّة إلى علاقة جماليّة صرفة، فصار وصف الناقة مجالاً للتنافس في الإتيان بسمات النموذج الجماليّ، وتمّ تبادل الصفات بين المرأة والناقة، ثمّ تمّت الأنسنة كاملة كما نجدها في قصيدة المثقّب العبدي إذ يقول:
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوهُ آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبداً وديني
أكلُّ الدهر حلٌّ وارتحالٌ أما يُبقي علي ولا يقيني!
لقد صار الكلام على الناقة من خطّة القصيدة العربيّة التقليديّة، وناقة (طرفة) في هذا الإطار الأشهر، وإنّ ما وسمها به من سمات حضاريّة تؤكّد على تحوّل نظرته إليها من النافع إلى الجميل، فمرفقاها كقنطرة الروميّ، وخدّها كقرطاس الشآميّ، وعيناها كالماويتين (المرآتين) يقول:
لها مرفقان أفتلان كأنّها
تمرّ بسَلمي دالج متشدّدِ
كقنطرة الروميّ أقسم ربّها
لتكتنفن حتّى تُشاد بقَرمدِ
وخدٌّ كقرطاس الشآميّ ومشفرٍ
كسِبتِ اليماني، قدّهُ لم يُجَرّدِ
وعينانِ كالماويّتينِ استكنّتا
بكهفي حجاجَي صخرة قَلتِ موردِ
تعدّ الذاكرة من أهمّ الأشياء المتبادلة بين الإنسان والجمل، والتي أقرّتها تلك العلاقة الأنثروبولوجيّة- الثقافيّة، فالجمل صبور، وقويّ، وحمول، لكنّه لا ينسى الإساءة أبداً، فضلاً عن أنّه غيور وحميميّ في علاقته بأنثاه، فإذا ما صادفه أحد وهو يقوم بفعل جنسيّ قتله!.
الحمار هو الذي ينسى الإساءة، فهو يُزجر، ويُضرب، ثمّ يرضخ، ومن المعروف أنّ العلاقة الأنثروبولوجية- الثقافية بين العربي والحمار سيئة، بدءاً من النفور من صوته وانتهاءً بانعدام الثقة بفهمه، وإن حُمّل بالأسفار.
ستون عاماً مرّت على النكبة، ولم ينسَ العربيّ فلسطينه، ولن ينسى، وإنّ الذي راهن على أنّ الجيل الأول سيموت، والثاني سيقاتل، والثالث سينسى، عليه قبل أن يدرس السياسة والتاريخ، أن يطالع في الأنثروبولوجيا- الثقافيّة، وأن يعرف مسلّمة بسيطة هي أنّ الجمل لا يفقد ذاكرته!.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244