قديماً عبر عبدالقاهر الجرجاني عن إعجابه بالشاعر المبدع الذي يعمد إلى التوفيق والتأليف بين المتباعدات، وعد ذلك مكمن الحذق والبراعة؛ حيث يقول: (إن الأشياء المشتركة في الجنس المتفقة في النوع تستغني بثبوت الشبه بينها وقيام الاتفاق فيه عن تعمّل وتأمّل في إيجاد ذلك لها وتثبيته، وإنما الصنعة والحذق والنظر الذي يلطف ويدق في أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب). (أسرار البلاغة - ص 136).
ومقولة الجرجاني السالفة قريبة من مقولة سارترsartre إذ يقول إننا نعقد الصلة بين الأشياء، وإن العلاقات ماثلة ولكن بفضلنا نحن تتكشّف وحدة المنظر الطبيعي في الكون. (سارتر - ما الأدب - ص 44). وهي رؤية تعتمد عنده كما هي أيضاً عند ماياكوفسكيmaiakovski وباسترناكPasternak وغيرهم على أن المجاز عنصر موجود في العالم وليس نتيجة تفكير في العالم، وعلى المبدع أن يشفّ ويرهف نفسه وأدواته لالتقاطه واكتشاف علائق الأشياء الغائرة في الكون. (عبدالرحمن بدوي، في الشعر الأوربي المعاصر - ص 72-73).
والشاعر والمبدع عمومًا إذ يلفتنا إلى العلائق الخفية يعيدنا إلى التفكير في الأشياء في الوجود من منطق الوحدة؛ إذ كل شيء في الوجود فيه حنين إلى الآخر، كل الأشياء ذات انجذاب واتساق مع بعضها، ولكن ربما تبعد وتطول مسافات الحنين فلا يعود يراها الإنسان. وعندما نكتشف في عمل المبدع كشفه لتلك العلائق نبتهج ونلتذ باكتشاف ذاك الانجذاب، وذاك الحنين الذي كان أبكم ومشلولاً وعاجزًا ومبددًا على مسافات الأشياء المتحابة. ومن هنا يمسي مجاز الشاعر من هذا النوع طيًا للمسافة، ويصبح فرحًا أو عرسًا لأشياء الوجود المغتربة عن بعضها. وهو احتفال يدشنه الشاعر، ويحتفل به معه المتذوقون لشعره كلما نجح في إعادة تلك الأشياء إلى نقطة تلاقيها بعد طول اغتراب؛ فالفرح بالصور والمجاز فرح بتلاقي حنين الأشياء الذي يجعلنا نتماهى بالكون ونشعر بتماسكنا وتماسكه!! ألم يقل قديمًا الفلاسفة وغيرهم من الرياضيين وأهل علم الباطن أيضًا إن سر تماسك الكون إنما يعود إلى النِسَب المتحابة؟! أولم يعرفوا الحب ذاته بأنه الحنين إلى عهد الاتحاد كما في أسطورة الانقسام العتيقة؟ أولم يقل ابن حزم إنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة؟ ولذلك أقول إن المجاز نوع من الحب!!
إن السعي للتماهي والتماسك كأنما هو مسلك دفاعي نازع ضد البدد والفناء. ترى أوكان الجرجاني يفكر على هذا النحو، ويحوم حول هذا المعنى الوجودي العميق حينما قرر أن المتعة الحاصلة من تذوق النص الجميل تأتي مما فيه من عمل المخيلة وإبداع التصوير والمجاز حينما قال: (وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبهًا في الأشخاص الماثلة والأشباح القائمة وينطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد فيأتيك بالحياة والموت مجموعين). (أسرار البلاغة ص 118). وفكرة التوحد مع الموجودات كانت منذ القديم وما زالت تتكرر في الفكر والفلسفة بشكل واعٍ وفي الإبداع بشكل - في الغالب - غير واع كعزاء في مواجهة الموت. وقد كتب كرويزر kreuzer ذات يوم: (كم سيكون الأمر رائعًا في غمار الموت أو بالأحرى في الكل العظيم حيث تُمتص الفردية). (ينظر كتاب جاك شورون - الموت في الفكر الغربي - ص 169). وذهب هولدرلينHolderlin في قصته هيبريونHyperion إلى القول إن (التوحد مع كل ما ينبض بالحياة في تسامح قدسي لكي تعود إلى الطبيعة ككل، ذلك هو خلاصة الأفكار والمباهج، ذلك السمت المقدس وكنه الراحة الأبدية.. ومن التوحد مع الموجودات يختفي الموت). (الموت في الفكر الغربي - ص 169). لكن يا ترى أكان الجرجاني حينما قال: يريك التئام عين الأضداد فيأتيك بالحياة والموت مجتمعين أكان بهذا المعنى يحوم حول تحررنا نحو حوار مع الوجود، حوار يجعل الوجود سكنًا باللغة المبدعة التي تحاوره وتخلقه، باللغة (البيت والمأوى) مثلما قال بوضوح ناصع هيدجرHeidegger حينما أكد أن اللغة هي بيت الوجود الذي يسكنه الإنسان، وأنها هي التي تؤسس كل ما هو كائن وأنه بهذا الحوار نكون واحدًا، وهو حوار لا ينقطع بسبب من وجود الإنسان في هذا الكون، الإنسان الذي هو ينبوع للإمكانات، والذي هو مشروع ذاته باستمرار.
وقلت - أعلاه - إن المجاز يحررنا نحو حوار مع الوجود، اتفاقًا مع هيدجر الذي يرى أن الحرية هي: (القدرة التي بفضلها ننفتح على الأشياء بكشفنا للوجود، والوصول إلى الأشياء ليس ممكنًا إلا لأننا نملك ملكة الكشف عن الوجود). (الموسوعة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي، مادة هيدجر). فإلى أي حد ما زال الشعر والشاعر يحظيان بهذه الحرية وبهذه الملكة، ملكة الكشف وملكة الخيال كذلك؟ ملكة الخيال التي قال عنها كولن ولسون قوله الرائع معرفًا إياها بأنها قوة ليست غايتها أن تسمح للناس بأن يعيشوا في عالم من الخيال بل أن تمكنهم من توجيه العقل نحو أوسع معنى ممكن للحياة! (ينظر قول ولسون في كتاب الشعر والصوفية - ص 124).
والحرية هذه التي عادلها باشلار بالشعر حيث عرف الشعر أساسًا بأنه ظاهرة حرية؛ إذ يقول: (للشعر العظيم تأثير كبير على روح اللغة، إنه يوقظ صورًا امّحت ويؤكد في الوقت ذاته طبيعة الكلام غير المتوقعة. وإذا اعتبرنا الكلام ذا طبيعة غير متوقعة ألا يكون هذا تدريبًا على الحرية؟ أليس متعة يمارسها الخيال حيث يعبث بالرقباء؟! عند هذا تصبح الفنون الشعرية هي الرقيبة. وأما الشعر المعاصر فقد أدخل الحرية في جسد اللغة ذاته؛ ولهذا يظهر الشعر كظاهرة حرية). (جماليات المكان - ص 202) فهل يا ترى ما زالت الكائنات (والشعر أحدها) تتنفس هذه الحرية؟!
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244
-الرياض
Rafef_fa@maktoob.com