لاشك أن الغذامي بدأ وسيظل شخصية مثيرة للجدل كما أنني أزعم أنه المثقف الوحيد من تياره الذي استطاع أن يمثل حضوراً ثقافياً مبهراً، ولا يدخل ضمن الإبهار نوعية وجودة المنتج، فهذا أمر آخر، فالإبهار توصيف لحالة وليس تقويماً لمنتج، فليس كل مُبهر قيمة، وهذه إحدى مشكلات الغذامي مع المشهد الثقافي، أي سعيه المستمر ليكون حضوره مبهراً أكثر من أن يكون مفيداً، وهو ما أهدر طاقته الفكرية، وجرفه بعيداً عن دوره في تأسيس تنمية ثقافية كان هو أكثر المثقفين لدينا تأهيلاً للقيام بذلك الدور، لكنه اختار أن يكون فارساً ثورياً بدلاً من أن يكون مجدداً ومؤسساً لتنمية ثقافية، فدفعه بريق وبطولة الفروسية للاصطدام مع ما يعتقده الآخرون، أي الثورة على مرجعيات العقل الجمعي، ولعل هذا المسلك الذي رسمه سار عليه بعض المثقفين باعتباره مسلكاً يضمن لهم صفة الثورية ضد الآخر، فالآخر هو عبارة عن مجموعة من المرجعيات الدينية والاجتماعية والثقافية وهي التي تُكّون (هوية الفرد) والصراع معها، هو صراع مع هوية الفرد، هذا ما لم يستوعبه الغذامي، لا أقصد أنه لم يستوعب أهمية وقيمة الهوية، بل لم يستوعب قيمة المرجعيات التي تُبنى عليها هوية الأفراد، فأراد أن يثور عليها بمحوها بدلاً من أن يصلحها أو يطوّرها، وهذا هو الفرق بين الثوري والمجدد.
والمدهش أن الغذامي الذي أنكر شرعية مرجعيات هوية الفرد السعودي في البنيوية، عاد في مرحلة لاحقة وهي مرحلة (النقد النسقي) يستمد حضوره المبهر من خلالها واستغلالها في تطبيقاته، ولا أدري علام راهن لكسب السباق، في المرحلتين وهو ما يجعلني أن أقول إن الغذامي يفتقد التخطيط الثقافي لتوفير ضمانات كافية لفوزه كمجدد ثقافي، أو قل إن التخطيط الثقافي عنده غير واضح بما فيه الكفاية بحيث يحقق غاية التجديد الثقافي الذي ترأسه الغذامي، وغياب التخطيط الثقافي يقرب أفكاره لصفة الثورية أكثر من صفة المجدد، فكانت النهاية في غير مصلحته في كل مرحلة، لأن الثورة هدم والتجديد بناء، والغذامي أبدع في الهدم وأخفق في البناء، أو هكذا أظن.وهناك فرق بين أن تختلف مع الآخرين أو أن تصطدم معهم، فرق يعتمد على كيفية تعاطيك مع اعتقاد الآخر، الاعتقاد باعتباره السلم المعرفي للعقل الجمعي النشط، أي الذي يتحكم في اتخاذ المواقف وتصويغ القرارات وأيديولوجية الرؤية الجمعية، ومدى احترامك لجذور ذلك الاعتقاد وسعيك لإيجاد ائتلاف بين المختلفات لتحقيق غاية التطوير والإصلاح، هذا هو دور المجدد المؤسس للتنمية الثقافية، ففي الثقافة ليس هناك منطق (غالب ومغلوب)، وأحسب أن ترويج منطق (المنتصر والمهزوم) و(الإقصاء) في الثقافة السعودية يعود فضلهما إلى الغذامي، الذي أعطى للخلاف والاختلاف الثقافيين زيّا جديداً هو (زي الصراع)، بل واستطاع أن يؤسس هوية لكل من شارك في ذلك الصراع وأتباعهم وأتباع أتباعهم حتى يومنا الحالي فمازالت الثقافة السعودية تصنف المثقفين - وإن كان هذا التصنيف في الخمس السنوات الأخيرة بدأ يتلاشى مع توسيع خارطة المشهد الثقافي لدينا وتنوعه - أقول ما زالت الثقافة تصنف المثقفين إلى مثقفين غير حداثيين يدخل ضمنهم المحافظ والكلاسيكي والسلفي والصحويّ، ومثقفين حداثيين والمقصود بهم أتباع تيار الغذامي، أو (الغذاميون).
هذه الخصخصة التوصيفية لم يحظَ بها سوى الغذامي دون غيره من المثقفين السعوديين على مدى التاريخ الثقافي السعودي كدلالة على تمدرس أفكار الغذامي وأثرها على جيلين ثقافيين بعده.
والحقيقة أن الاعتقاد بتأثير أفكار الغذامي على الجيلين الثقافيين بعده، مسألة تحتاج إلى القيام بمسح للإنتاج النقدي لهذين الجيلين ونقاط التأثر والتأثير المتبادلة بين أفكار الغذامي وأفكار النقاد الجدد، وبما أن المسح غير متوفر فالاعتقاد بالتأثير مسألة غير محسومة، والنقطة الأخرى في تمدرس أفكار الغذامي، تتعلق بضبط مصدر التأثير، حسب تأريخ الحداثة الفكرية، فلم يكن الغذامي هو مصدرها الوحيد، فهناك مجموعة من النقاد والشعراء والكتّاب شاركوا مع الغذامي (لمصدِّرة) الحداثة الفكرية في الثقافة السعودية، بصرف النظر عن من كان صوته الأعلى ومن كان في الصف الأول والأخير فهذا لا يلغي حقهم كمصادر للحداثة، فالجميع هم مصدر لتلك الحداثة، وبذلك فإمكانية اختلاف أو تعدد مصدر التأثير محتمل قائم، يشكك في أحادية مصدرة الفكر الغذامي للتأثير على النقاد الجدد، وبذلك تصبح مسلّمة أن (النقاد الجدد غذاميون) قابلة للشك والاختلاف والتفنيد، ولعل صفة الإبهار التي تصاحب دائما الغذامي هي من تضيء دوره وتسحب الضوء من غيره في ذات الصف، وهذا الأمر يعود إلى الكاريزما التي يتصف بها الغذامي والذكاء الثقافي الذي يرشده إلى مواطن الضوء والنار، وهو ما افتقده أنداده في نفس التيار، ومع ذلك فأحسب أنه لم يستغل تلك الكاريزما وذلك الذكاء الثقافي في تأسيسه لتنمية ثقافية، وأهدرها في استفزاز ثوري لم يحقق منه شيئاً.
هل معنى ذلك أنني أنفي أن يكون الغذامي (مدرسة ثقافية نقدية)، الغذامي أقدر مثقف سعودي يستطيع أن يصبح (مدرسة ثقافية نقدية) ولكنه ليس (بمدرسة ثقافية نقدية) لأنه لم يسعَ ليصبح كذلك، لم يسعَ ليحول أفكاره إلى منهج إصلاحي ثقافي، لم يسع إلى تطوير النظريات النقدية التي تبناها رغم المجهود التطبيقي الذي بذله لعربنة وسعودة تلك النظريات وتقريبها لذهن المتلقي، إضافة إلى غياب التخطيط الثقافي من قبله لتحويل الثورة إلى تجديد ثم تفعيل ذلك التجديد الذي حملته ثورته، والسبب الآخر نرجسية الثوري الذي يريد أن يظل بمفرده، وهما نرجسية وفردية مهمتان للثوري والمجدد في مرحلة التأمل التنظيري وإعطاء الفكر الثوري التجديدي مرجعياته التوثيقية، باعتبار أن حزمنا نحو ما نعتقده إحدى مرجعيات إغناء الأفكار، ومتى ما تحول مصدر الإغناء إلى مصدر توثيق بدأ الصراع مع الآخر؛ لأنه يعطي ذلك المصدر حق الحقيقة والمطلق والصواب، فنحن نتعامل مع مصادر إغناءتنا باعتبارها متحولات، لكن الغذامي تعامل مع مصادر إغناءته بأنها ثوابت وكان هذا الخطأ القاتل للنظرية البنيوية عنده، إضافة إلى سوء استخدامه لها في مجال التطبيق.
لكنهما يصبحان - النرجسية والفردية - مأزقاً للثوري المجدد في المرحلة اللاحقة لأنهما سيمنعانه من التفرغ للتخطيط الإجرائي لتنفيذ ذلك التجديد بما يحقق التنمية الثقافية، لكن يبدو أن التخطيط لإيجاد تنمية ثقافية عبر تجديد بنى الثقافة السعودية لم يكن من ضمن أهداف الغذامي كثوري فكري وثقافي، وقد يكون تفكك التيار الحداثي في بدايته كجماعة، والصراع الذي دخل فيه للدفاع عن أفكاره مع التيار المحافظ قد ألهاه عن دوره كمجدد فكري وثقافي، لكنه ليس مبرراً يعفيه من غياب دوره التنموي الثقافي الذي كان مفروضاً عليه كمجدد للفكر الثقافي السعودي، ومتاح له.
الدكتور الغذامي شخصية مصادمة - ولعلني أشبهه في هذا الأمر - وهو ما دفعه إلى تحويل المشهد الثقافي السعودي بداية الثمانينيات الميلادية إلى ساحة صراع بين الإخوة الأعداء من المثقفين، كما أنه حاول تكرار التجربة عندما نادى بمقاطعة الأندية الأدبية بعد قرار التعيينات، وإن نجح في المرة الأولى في الثمانينيات، فبلا شك أنه أخفق في المرة الثانية ولم تؤثر دعوته بأي انقلاب ثقافي كالماضي، لأن طبيعة المشهد الثقافي الآني قد اختلف عن الثمانينيات، بل وطبيعة المثقف ذاته، الذي تمرد على التبعية والتصنيف الثقافيين، وتأثير الغذامي قد تراجع على مستوى المشهد الثقافي وعلى مستوى المثقف، فلم يعد هو القائد للمشهد الثقافي والمؤثر فيه كما كان في الثمانينيات، ولم يعد مبهراً للمثقف الناشئ، فالمشهد الثقافي الآن لن يقبل وجود فكرة (قائد) للمشهد الثقافي سواء من التيار الليبرالي أو التيار المحافظ، ولن يقبل العودة إلى فكرة الإقصاء التي بدأ يتحرر منها، ومن الصراع الذي سببته، فالغذامي ما يزال يؤمن بفكرة (قيادة) المشهد الثقافي، وهذا ما نرفضه بصرف النظر عن الطبيعة الفكرية لمن يدعو لها، لأن التطوير والإصلاح الثقافي لن يتم إلا عبر منهج ثقافي تكاملي يجمع بين التيارات المختلفة ويحترم كلاً منها مرجعيات الآخر واختلافاته، واستغلال تلك الاختلافات كمصدر إغنائي للتاريخ الثقافي السعودي، كما لم تعدّ اللغة الفوقية وصيغ الإرشادات ونقاط التوصيات التي يمارسها الغذامي في كل مناسبة مقبولة وكأنه مرشد روحي للمثقفين، لا أحد ينكر أن الغذامي (خبرة ثقافية) كبيرة يستطيع أن يضيف لقارئه ومحلله لكنه لا يتجاوز مستوى كونه (خبرة ثقافية) وليس (مرشداً روحياً للمثقف).
لقد فشل الغذامي في منتصف الثمانينيات كثوري ومجدد فكري ومعارض ثقافي، فشلاً أعاقه من التوصل إلى اتفاقية صلح مع التيار المحافظ لتأسيس منهج إصلاحي ثقافي متكامل، وكان الضحية الأولى لفكرة الهزيمة والنصر الذي روّج لها منذ بداية صراعه مع المحافظين، فقرر الهرب من ساحة الصراع الذي أشعلها هو بأفكاره، لينتصر التيار المحافظ، مما ويسهم في توسيع رقعة ذلك التيار وهيمنته، ولعله رأى في فكرة الهرب شجاعة فارس للانسحاب من معركة التغير والتغيير التي لن يستطيع قيادتها والتأثير فيها - ذلك جائز - ولا نستطيع أن نقول إن قراره حكيم لأنه لم يكن من اختياره، بل كان مفروضاً عليه. لكن هذا لا يمنع من أن الغذامي ما يزال حتى اليوم يملك القدرة على أن يكون مبهراً، مبهراً فقط.
ولا يمكننا بالتأكيد أن نغفل (المرأة) عند الحديث عن تاريخ أفكار الغذامي.
وهذا حديث آخر.
ويظل (الاستثناء والشذوذ وجهين لعملة واحدة، تتجاوز استواء الطبيعة).
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
-جدة
seham_h_a@hotmail.com