لعلّ أهمّ ما يُعْوِز حركتنا التعليميّة والثقافيّة، المحليّة والعربيّة غياب التخطيط الاستراتيجي للانتقال من طورٍ إلى آخر، من مرحلة التعليم باللغة الانجليزيّة- مثلاً- إلى التعليم باللغة العربيّة في التخصّصات العلميّة؛ إذ لا تبدو هنالك رؤية لمستقبلٍ مختلفٍ عمّا نحن فيه منذ قرن، وكأننا قد كتبنا على أنفسنا أن نبقى هكذا إلى ما شاء الله! بل لا يبدو هنالك طموح لمثل تلك النقلة المستقبليّة، بل حسبنا أن نرضى بقسمتنا ونصيبنا، ونجرّب حظّنا هكذا إلى أجل غير معلوم! والأدهى أنْ لسنا دون حراكٍ إلى الأمام فحسب، بل نحن أيضًا لا نَثْبُتُ حيث نحن، وإنما نحن اليوم قد حزمنا أمتعتنا وأطفالنا للرجوع إلى الخلف، أي: من مرحلة التعليم بالعربيّة في بعض مدارسنا إلى التعليم بالانجليزيّة، مرةً واحدة.
ويُعدّ مشروع مجمعٍ للّغة العربيّة في السعوديّة - لو قيّض له القيام - من المشاريع المستقبليّة المنشودة في مضمار اللغة والتعريب والترجمة. ولقد أنجز مجلس الشورى مشروع نظام المجمع منذ سنوات، والمؤمل أن يرى النور قريبًا، وأن ينهض على أُسسٍ جديدة، وبقُدرات تتناسب مع أهميّته، وما تُعقد عليه من آمال، وأن يفيد من خبرات المجامع العربيّة التي سبقتنا في هذا المضمار بعشرات السنين، كي لا يكون وجوده كعدمه.
ولا تعارض بين الحفاظ على اللغة الأُمّ ومعرفة لغات أخرى في حدود الحاجة، ودون أن يهدّد ذلك الانتماء اللغوي الوطنيّ والقوميّ. أم نقول: إنّ كلّ الأُمم خاطئة في الاهتمام بلغاتها، وقد اكتشفنا نحن مؤخّرًا خارطة الطريق العكسيّة إلى التقدّم عبر اللغات الأجنبيّة؟! كل علماء اللغويّات التطبيقيّة، واللسانيّات الحديثة، والأنتولوجيا اللسانيّة، مخطئون إذن، وعاطفيّون، ومنحازون إلى اللغة العربيّة، على حساب سوق العمل، وحاجة أبنائنا للّحاق بالرَّكْب، حين يقرّرون أن اللغة الأجنبيّة تزاحم اللغة الأُمّ، وما كانت لغتان لامرئ إلاّ حافت إحداهما على الأخرى، وكان العدل بينهما - (مجرد العَدْل) - مستحيلاً، ولو حَرَصنا؟! مخطئون، وعاطفيّون، ومنحازون إلى اللغة العربيّة، على حساب سوق العمل، وحاجة أبنائنا للحاق بالرَّكْب، أولئك العلماء حين يقرّرون الآثار الخطيرة، اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة، لتعليم اللغات الأجنبيّة في مراحل مبكرة؛ لأن اللغة هي روح الإنسان وفكره، والفكر والمعرفة صنيعتا اللغة، لا العكس، وحين يذهب بعضهم إلى أن «منظومة لغويّة ما تؤثّر في طريقة رؤية أهلها للعالم، وفي كيفيّة مفصلتهم له، وتاليًا في طريقة تفكيرهم»؟(1) ربما كان مخطئًا، وعاطفيًّا، ومنحازًا إلى اللغة العربيّة، على حساب سوق العمل، وحاجة أبنائنا للحاق بالرَّكْب، كلّ من سابير وورف، وليونز، وتشومسكي! أمّا أمثال عبدالسلام المسدي، أو زهير السباعي، وغيرهما، فحدّث ولا حرج عن غفلتهم، وعاطفيّتهم، وانحيازهم، على حساب سوق العمل، وحاجة أبنائنا للحاق بالرَّكْب الحضاري قبل فواته!
أليس هذا منطق ما يحدث بين ظهرانينا من جدليّات بلا عِلم ولا منطق؟!
على أن السؤال الذي يجب أن يُطرح في هذا المفصل من تاريخنا التعليمي، هو: بأيّ حقّ يعلّم الطفل العربيّ بغير لغته أصلاً؟
أليس في هذا انتهاك حقوقيّ صريح لما تكفله المواثيق والاتفاقيّات الدوليّة والإقليميّة الملتزم بها من احترام لغة الطفل وهويّته؟! وقبل هذا، تضمنه المواثيق والقِيَم الإنسانيّة، فضلاً عن الدينيّة. ولا شك أن انتهاك حقّ الطفل في التعلّم بلغته الأُمّ هو أخطر من انتهاكات حقوق الطفولة الأخرى، ممّا تُحاسب عليه النُّظم والقوانين الوطنيّة والدوليّة. للكبار أن يتعلّموا ما شاؤوا، وكيفما شاؤوا، ولكن ليس من حقّهم بيع أطفالهم في سوق النخاسة اللغويّة، ولا التغرير بهم، ولا تغريبهم عن أصولهم، ومحو ذواكرهم الجمعيّة، بتغيير لغاتهم، أو دياناتهم، أو هويّاتهم، تحت أيّ ذريعة.
إن الدعوة إلى تعليم اللغات الأجنبيّة، إذن، وعلى هذا النحو الحادث اليوم، ليس هدفه سوق العمل، كما يتردّد، بل سينتهي إلى إحداث زحزحة في القِيَم نحو قِيَم جديدة، وتحويل الثقافة صوب إطار مرجعيّ، هو نسخة مستنسخة عن ثقافة الآخر، «حذو القُذّة بالقُذّة». ومن ثَمَّ تنميط الثقافة الإنسانيّة لتغدو نسخة واحدة عن الثقافة الأمريكيّة؛ إذ لم تعد تكفي ثقافة «الماكدونالدز»، و«الجنز»، و«البيبسي كولا»، بل آن الأوان لقولبة الذهن نفسه ليكون وفق مواصفات عالميّة أمريكيّة واحدة، لا مجال فيها للتنوّع، ولا للاختلاف، ولا للاستقلال، ولا للتعدّد اللغويّ والثقافيّ، وذلك لكي نلحق بركب سبقنا إليه الهنود الحمر، «حتى لو دخلوا جُحر ضَبّ»!
إنها باختصار شديد: خطوة فكريّة، ثقافيّة، قيميّة، لا لغويّة. وهي حالة من الاستلاب الحضاريّ، يعيشها الإنسان العربيّ والمؤسّسة العربيّة، فيما يشبه وسواسًا قهريًّا بأن لا ملجأ من الأجنبيّ إلاّ إليه: رُفعت الأقلام وجفّت الصّحف!
ولهذا لا غرابة أن نرى أنه في الوقت الذي تعتزّ كُلّ الأُمم بلغاتها- وتفرضها، في بلدانها على الأقلّ، إنْ لم تستطع فرضها خارجها- لا يحدث مثل ذلك لدينا، على الرغم من النصوص الصريحة والبيّنة بأن العربيّة هي لغة الدول الرسميّة، في جميع المرافق، ولغة التخاطب الثقافي. لكنها أحبار على أوراق، لا تُفعّل غالبًا، لا في المؤتمرات، ولا الاجتماعات، ولا المنتديات، التي تُعقد على ثرى الوطن العربي، لا بوعي الأفراد الفكريّ والتزامهم الوطنيّ، ولا بآليات إلزاميّة لوضع تلك المبادئ السياديّة محلّ التطبيق. حتى لقد خَبِر فينا غير العرب نقطة النقص تلك، وهي بطبيعة الحال مُريحة لأولئك، وربما مسايرة لأهداف بعضهم. لقد خبروا أن المفاخرة بيننا والاعتزاز إنما هما بالانجليزيّة، لا بالعربيّة، وأن معيار الثقافة الرطانة. في الوقت الذي يرفض صاحب كُلّ لغة، يعتزّ بهويّته، استعمال لغة أخرى- في بلده على الأقل- وإنْ عرف لغات العالم الحيّة والميّتة؛ بما أن ذلك مبدأ سياديّ لا تنازل عنه؛ لأن التنازل عنه تنازل عن الكرامة الثقافيّة والإنسانيّة؛ ليصبح ذَنَبًا لغويًّا لا رأس له. فأسموراتوموكو- على سبيل المثال- تشيد بثقافة المرأة السعوديّة خلال محاضرة لها في معرض الرياض الدولي للكتاب 2008، تحت عنوان «العقل اليابانيّ مصدر للتقنية»، مبرزةً, ومعيدةً ومبدئةً: أن فكرتها تغيّرت حول المرأة السعوديّة.. لماذا؟ لأنها «وجدتها مثقّفة، ومنفتحة على العالم بثقافتها، وعلمها، وأدبها، ولطيفة، وتتفاهم باللغة الانجليزيّة»! وهذا يومئ في المقابل إلى أن من لا تتحدث الانجليزيّة غير مثقفة، ولا منفتحة على العالم، ولا لطيفة، ولا تستحقّ الذِّكر! وهذا نموذج من واقعنا، حيث المباهاة، بمناسبة وبغير مناسبة، بالحديث بالانجليزيّة مع من يحسنها ومن لا يحسنها، بل ممّن يحسنها ومَن لا يحسنها! وهو أمرٌ لافت حقًّا لكلّ وافد، بل مذهل جدًّا لكل زائر، حين يجد حاجز اللغة قد أُلْغِي. وهو سلوك ظاهره إيجابيّ، لكن باطنة يعني: أن هؤلاء الناس لطيفون حقًّا، لا يردّون كفّ لامس وهم بلا لغة، ولا تميّز ثقافيا يستدعي معاناة الاقتحام للتعرّف على مختلفٍ لديهم مع أنه الله قد جعل من آياته اختلاف الألسنة والألوان بين الناس: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}(22) سورة الروم.
ترى هل سيأتي يوم لتعقد ندوة في طوكيو حول «العقل العربي مصدرًا للتقنية»، ما دام عقلاً مغسولاً من هويّته، ولغته، يفكّر بغيرها، ويفاخر بسواها؟
رسالة عاجلة إلى الأخت أسموراتوموكو - اليابان:
تحيّة عربيّة عريضة.. أمّا بعد،
كم نودّ لو استطعنا تغيير آية الألوان أيضًا، كما رأيتِنا قد فعلنا، بجدّنا واجتهادنا، في تغيير آية الألسنة، فأصبحنا منفتحين، ولطفاء جدًّا جدًّا! نعم، شقّرت النساء الشعور، وزرّقن العيون.. بعضهن فقدن الأبصار، لكن هذا ليس بالمهمّ، وليس هو ما يُقضّ مضاجعنا.. ما يُقضّ مضاجعنا حقًّا أنهنّ فقدن تناسق الألوان الطبيعيّة، فظهرن كمخلوقات أسطوريّة، متنافرات التكوين والألوان!
«بليز»، أسموراتوموكو، نريد حلاًّ لسُمرة أبشارنا! فلعلكم بعقلكم اليابانيّ، «مصدر التقنية»، تسعفوننا، عاجلاً غير آجل، بتقنية جديدة- تحقّق حُلمًا عتيقًا- تجعل العربان شُقرًا!
وإننا لواثقون في قُدراتكم المذهلة، وتقنياتكم الخارقة!.. في الانتظار.. والله يرعاكم!
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
Adam Schaff, Language et connaissance (Paris: Editions Anthropos, 1973), pp. 292- 293.(1)
عن (الجابري، محمّد عابد، (2004)، بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقديّة لنُظم المعرفة في الثقافة العربيّة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة)، 15).
- الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net