ربما كانت رواية (الحزام) لأحمد أبو دهمان من الروايات العربية القليلة المهمة التي كتبت مرتين، الأولى باللغة الأجنبية، والثانية باللغة العربية. فقد صدرت الطبعة الفرنسية عن دار نشر غاليمار العريقة سنة 2000م، وصدرت طبعتها العربية بعد عام من ذلك التاريخ عن دار الساقي ببيروت.
وقد أحدث صدورها ضجة في الأوساط الثقافية الفرنسية، لا يزال صداها يتردد حتى الآن، وكان من نتائج هذا الاهتمام الثقافي والإعلامي بها أن أعيدت طباعتها مرات عديدة؛ ما يكشف لنا عن الحيز الواسع الذي لقيته الرواية من اهتمامات النقاد والكتاب الفرنسيين.
وأحمد أبو دهمان هو أول روائي سعودي يكتب باللغة الفرنسية، بل إنه أول روائي من الجزيرة العربية ينشر بهذه اللغة، وهو بعمله هذا يكسر الاتجاه التقليدي لدى المثقفين الخليجيين في الاتجاه نحو تعلم اللغة الإنجليزية والثقافة الأنغلوساكسونية. والحقيقة أن الحركة النقدية في العالم العربي قد تجاهلت هذه الرواية، أو لنقل إنها لم تعرها جزءاً - ولو ضئيلاً - من الاهتمام الذي أحدثته في الأوساط الثقافية في فرنسا.
تختلف رواية الحزام عن معظم الأعمال الروائية الخليجية التي تعرضت للحديث عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي ترافقت مع الثورة النفطية في النصف الثاني من القرن العشرين، ويظهر الاختلاف في أن الرواية تركز الحديث بشكل أساسي على التحولات الاجتماعية التي انبثقت نتيجة للانفتاح على الآخر، سواء أكان هذا الآخر عربياً أم أجنبياً، ونتيجة للتعليم الذي فتح أمام الإنسان الخليجي، والسعودي بخاصة، آفاقاً جديدة كانت مغلقة قبل ذلك.
واسم الرواية مستمد من التقليد الذي يحتم على الرجل ارتداء حزام يشده على جسده، ويعلق عليه خنجراً، وهو رمز للرجولة والقيم الأصيلة التي ينبغي للمرء أن يتحلى بها، كما أن إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية تحمل الاسم ذاته (حزام)، وتقدم هذه الشخصية على أنها الممثل الأمين للقيم القبلية الموروثة، والرافض للانفتاح على الآخر والاستفادة منه، فهي حامل للموروث الذي يأبى أن يتهاوى أمام رياح التغيير التي بدأت تهب من كل الجهات.
ولعل أجمل ما في الرواية أنها لا تدين البيئة التي تتحدث عنها، ولا ترفض واقعها الاجتماعي والثقافي أو تراه شاذاً غريباً، كما أنها لا تجنح إلى تمجيد الواقع وإظهار محاسنه دون مساوئه، ولكنها تسلك طريقاً وسطاً يقوم على الاعتدال والتوازن.
ومن أهم الطقوس التي تنقلها الرواية، احتفال الختان الذي يجتمع فيه الفتيان الذين بلغوا سن الخامسة عشرة، إنه الاختبار الأقسى للشجاعة والصبر، يأتي الفتى فيه عارياً لا يستر جسده إلا خنجران يلمعان بين يديه المرفوعتين عالياً، وقصيدة طويلة تسمى ب (قاف)، يفتخر فيها بآبائه وأخواله ونسبه الكريم، وحينما يشرع الخاتن بعمله تنطلق زغاريد النساء مختلطة بقصيدة الفتى وتهليل الرجال، ولا يسمح للفتى في هذه الحالة بالاهتزاز أو الارتباك أو التلكؤ في إنشاد قصيدته، فمثل هذا السلوك يعني أنه ناقص الرجولة، وأن أي فتاة أصيلة لن تقبل به زوجاً في المستقبل.
يتحول الفتى بهذا الاحتفال الدموي إلى رجل كامل الرجولة، ويصبح من حقه في هذه اللحظة ارتداء الحزام وتعليق الخنجر، فالختان هو بداية العبور إلى الحياة الحقيقية، وهو الطريق الوحيد للانتقال من طور الطفولة إلى طور الرجولة.
على أن الحزام كما يظهر في الرواية رمز للقيم القبلية والعادات المتوارثة، فحزام وهو الشخصية الممثلة لهذه القيم يرفض الذهاب إلى المستشفى أو المستوصف؛ لأنه لا يعترف إلا بمرض واحد هو الموت، بيد أن هذه التقاليد تختفي شيئاً فشيئاً مع تقدم الرواية، فقد أحدث افتتاح المدرسة انقلاباً في معظم القيود والتقاليد المتوارثة، لقد منع المعلمون - وهم قادمون من بلدان عربية أخرى - تلاميذهم من ارتداء الأحزمة وحمل السكاكين، وأجبروهم على تقديم التحية لعلم واحد بدلاً من رايات القبائل المتعددة. ومن المواقف ذات الدلالة العميقة سقوط حزام الراوي حينما همّ بتقديم التحية للعلم الوطني. ههنا يظهر التعارض بين ما تحاول الدولة القيام به في سبيل خير أبنائها، وبين القيم القبلية المتوارثة التي تأبى الانصياع لأوامر الآخرين، وترى أن الحرية البعيدة عن كل قيد هي شرط لازم للرجولة والشهامة والكرامة. لقد رأى بعض الآباء في المدرسة معملاً لتجريد أبنائهم من كل القيم القبلية، وأن الدولة بافتتاح هذه المدرسة تعد لهؤلاء الصغار مستقبلاً مناقضاً لما كانت القبيلة تريده لأبنائها؛ ما حدا ببعض الآباء إلى انتزاع أبنائهم من المدرسة خوفاً عليهم من المجهول.
لكن الموقف اللافت هو إصرار (حزام) على إبقاء ابنه في المدرسة، على الرغم من انتقاداته اللاذعة لها، وحينما يسأله الراوي عن هذا التناقض يجيبه بأنه ترك ابنه وديعة بين يدي الملك المؤسس، مؤكداً للراوي أن الرجال الكبار لا يموتون أبداً.
ومهما يكن من أمر فإن الاختلاط بالآخر لا بد أن تنتج عنه الصدمة التي تحصل بين ما ألفه الفرد في بيئته الضيقة، وبين عادات الآخرين وتقاليدهم. إن معلمي القرية قدموا من بلدان مختلفة: مصر والأردن وسورية، وهذا يعني أنهم ينتمون إلى بيئات اجتماعية وجغرافية متباينة، ويمثلون قيماً وعادات متعددة، ولكنها قيم تقف في مواجهة حادة مع تقاليد القبيلة وقيمها. لقد كان لهؤلاء المعلمين بعض السلوكيات التي أثارت استهجان أهل القرية - القبيلة واستنكارهم، كانوا مثلاً يتمخطون في مناديل يعيدونها قذرة إلى جيوبهم، وهذا سلوك يتنافى وما درج عليه الأفراد في بيئتهم.
ويبدأ القسم الثاني من الرواية مع انتقال الراوي إلى المدينة لمتابعة تعليمه المتوسط، بعد أن أنهى المرحلة الابتدائية في قريته، وتبدأ في هذا القسم معاناة من نوع آخر، إنها الابتعاد عن الأهل والرفاق، والانتقال من عالم البراءة والطفولة إلى عالم آخر، فيه متعة المعاناة وبهجة الاستكشاف.
وعادة ما تتفرق السبل بالقادمين إلى المدينة من الأرياف، فيبحث كل منهم عن نجاحه الفردي، وهذا ما حدث لهؤلاء الصبية، فأما أحدهم فيلجأ إلى سرد القصص المشوقة لنساء الحي الذي يسكنون فيه، فيجمع من جراء هذا العمل أموالاً يعين بها أهله الذين خلفهم وراءه في تلك القرية البعيدة. وأما الراوي فيجد نجاحه في متابعة تحصيله، وتكشف الرواية في أثناء السرد عن بعض المواقف الصعبة التي واجهته ورفاقه في حياتهم الجديدة، وعن اختلاف طرق العيش في المدينة عما ألفوه في قريتهم، بطريقة تجعل المتلقي يتعاطف مع وجهة نظرهم البريئة.
ولا يغيب عنا التنويه بالدور المركزي الذي تقوم به الأم في الرواية، فقد تحملت من أجل نجاح أسرتها الكثير من الصعاب وكابدت شظف العيش، ولما هدها التعب وأقعدها عن القيام بواجبات الزوجة، رضيت بالسكن في بيت صغير في طرف القرية، مفسحة المجال للأب كي يتزوج بامرأة تستطيع تحمل متاعب الأسرة.
يشير أحمد أبو دهمان في خاتمة الرواية إلى أن (الحزام) رمز الشرف والرجولة والإباء قد تحول في اللغة الفرنسية إلى لفظ مؤنث، مع ما يحمله ذلك من دلالة على الاختلاف بين الموروثين الثقافيين، كما أنه يستكمل بهذه الالتفاتة عملية التحول الثقافي والمعرفي الناتج عن الانفتاح على الآخر وقيمه وعاداته، أضف إلى ذلك أن الراوي الذي يسكن في باريس يتلقى وصية حزام وهي عبارة عن حزام وخنجر، ويعلقهما على الحائط بجانب صورة والده في إشارة واضحة إلى تحول بعض التقاليد إلى فلكلور وتراث ماضٍ لم يعد قادراً على الاستمرار في المجتمع المعاصر، كما أن موت حزام لا يخلو من مغزى عميق ذي دلالة مهمة على احتضار بعض القيم القبلية وتراجع دور القبيلة في حياة الأفراد، ولاسيما المثقفين منهم.
ولعل أهم إشكالية نقدية تثيرها الرواية هي الحدود الفاصلة بين الفن الروائي بما هو عمل متخيل والسيرة الذاتية التي يؤرخ فيها الكاتب لحياته أو لمرحلة منها، ذلك أن الجانب الببلوغرافي يختلط في أثناء السرد بالمتخيل الروائي، بيد أن هذه نقطة تحتاج إلى تقصٍ ليس هنا موضعه.
sulaiman_altaan@yahoo.com