منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 شرعت الإدارة الأمريكية في تجييش حالة من التوافق بين التكتلات الدولية الأقوى تأثيرا مثل حلف الناتو ومجموعة الدول الصناعية الثمانية والاتحاد الأوروبي على تصور مبسط مؤداه أن الخطر على الأمن العالمي ينحصر في الدور الذي لا يزال يلعبه الإسلام ضمن ثقافة المنطقة العربية والاسلامية وأن الحل يكمن في الضغط على دول المنطقة لتبني سياسات وخطط للتنمية ذات طابع (حديث) يستبعد دور الدين عموما خاصة على مستوى الثقافة السياسية السائدة. وتعكس هذه الرؤية السياسية القاصرة طبيعة العلاقة بين الإدارة الأمريكية وبين مراكز البحث والتفكير والأكاديميات الأمريكية على وجه العموم، فالإدارة تميل للتعاون مع الأقل كفاءة والأضيق رؤية لتنتهي إلى تصورات مبسطة تناسب أهدافها الاستراتيجية متجاهلة نصائح عدد من المراكز والأكاديميات ذات الرؤى الموضوعية المتوازنة.
وفيما يتعلق بتلك الأطروحة بالذات نلاحظ الاهمال المتعمد لتلك المراجعات الغربية المهمة التي كشفت كيف كان الدين بمثابة الأساس لعدد من حالات النهوض الحضاري طوال التاريخ البشري، بل إنه كان الركن الركين في النهضة الغربية الحديثة ذاتها منذ القرن الساس عشر الميلادي، وهي الحالة التي نظر إليها ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني والأكثر عبقرية وشهرة بين علماء الاجتماع الغربيين وذلك في مؤلفه الشهير (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)، حيث كشف عن الدور الجوهري للمتغير الثقافي الديني ليس فقط في عمليات التنمية المعتادة، بل فيما يعتبره علماء التنمية الغربيون أهم واقعة في تاريخ نهوض الغرب الحديث أي ظهور الرأسمالية عندما لفت الانتباه إلى دور الأخلاق البروتستانتية في صعودها.
ومن ذلك على سبيل المثال كشفه لدور الموقف البروتستانتي من الثروة التي هي في حد ذاتها خطر عظيم، فإغراءاتها لا تنتهي وهو ما يفسر رفض التراخي في أحضان الشعور بالأمن بامتلاك الثروة والتمتع بها مع ما يتبع ذلك من الكسل وإغراءات الجسد، وكيف أن الموقف البروتستانتي الصحيح تجاه هذه الثروة التي تأتي من خلال إخلاص العمل في المهنة هو أن يخضع المرء نفسه لها كوصي مطيع، كلما ازدادت ثقلاً ازداد ثقل شعوره بالمسئولية نحو حملها غير منقوصة، بل تنامي شعوره نحو زيادة الجهود الحثيثة لتنميتها في سبيل الرب. فالموقف البروتستانتي من الثروة لم يكن يتمثل في إنفاقها ببذخ بل في إدخار معظمها بعد انفاق القدر اليسير منها الذي يكفي لحياة التقشف والزهد، ثم استثمارها في تنمية (المهنة). لقد نظرت الأخلاق البروتستانتية لعمل المؤمن في مهنته وزهده في الإنفاق على متع الدنيا واستثماره لما يأتيه من ربح في تنمية مهنته وعمله من أجل صالح الناس ليس فقط باعتباره رسالة دينية في الحياة، بل أيضاً كبرهان على نعمة الله عليه ورضاه عنه.
كما لاحظ ماكس فيبر أن البروتستانت خلال هذه المرحلة التاريخية التي شهدت صعود الرأسمالية قد اتخذوا من الراحة والنظافة الحقيقية لبيت الطبقة الوسطى مثلا أعلى مقابل بريق وفخامة الأبهة الإقطاعية التي تفضل أناقة قذرة (في حقيقتها) على بساطة معتدلة باعتمادها على قواعد اقتصادية ضحلة غير عميقة أي تفتقر إلى أي عمق ثقافي ديني أخلاقي يضفي عليها القيمة والدلالة والمعنى الكلي للحياة.
هذا التفسير الديني الأخلاقي لظهور روح الرأسمالية في غرب أوروبا والولايات المتحدة في هذه المرحلة من ظهور الرأسمالية لا يدحض الرؤية الراهنة للادارة الأمريكية فقط حول دور الدين عموما ولكنه يثير أيضا عددا من التساؤلات المشروعة حول مدى تفرد البروتستانتية وحدها في الغرب بمثل هذا النوع من القيم الحداثية أم أنها موجودة لدى عدد من الشعوب على الرغم من تباين الرؤي الاعتقادية، فالرؤية الإسلامية من وجهة نظر بعض الدارسين كان لها التأثير الأكبر في ظهور منظومة القيم الكامنة وراء التطور البروتستانتي مقارنة بالفكر المسيحي التقليدي، ولا يسمح ضيق المقام هنا باستعراض الكثير من تلك القيم الاسلامية الايجابية المحفزة على الإقدام على الحياة وتوظيف خيرات الطبيعة لصالح الانسان، وتقديس العمل والتأكيد على اتقانه كقيمة دينية مطلقة حتى بغض النظر عن قيمة العائد، وضرورة مواصلة العمل ولو حلت الساعة على المؤمن، اضافة إلى التأكيد على التصرف الرشيد في الثروة، فملكية المؤمن في الإسلام ليست مطلقة بل إنه مستخلف عليها من قبل الله خالقها ومالكها الحقيقي، وهو يحاسب كيف حافظ عليها وتصرف فيها لخيره وخير مجتمعه, مما يكشف عن إمكان توظيف القيم الثقافية لهذه الرؤية الإسلامية تجاه دعم قيم الإدخار ورفض الإنفاق البذخي وأهمية استثمار الثروة لصالح المجتمع باعتباره دليل صلاح المسلم.
إن ذلك كله من شأنه أن يدحض الأطروحة السياسية للادارة الأمريكية التي هي أحد مظاهر مقولة بعض المنظرين الأمريكيين أمثال برنارد لويس حول وجود تناقض جوهري يستحيل حله بين الإسلام والحداثة، وتبقى المسألة الفكرية الأكثر أهمية هي إصرار أصحاب هذه المدرسة الاستشراقية السياسية على وجود نسخة أصلية وحيدة (للحداثة) هي النسخة الغربية وعنادهم في التمسك بهذا التصور على الرغم مما انتهت اليه اليونسكو من رفض استخدام مصطلح (الحداثة) بصيغة المفرد واستبداله بالمصطلح الأكثر دقة (حداثات) بصيغة الجمع والا وجب على الباحث المدقق استخدام مصطلحات أكثر تحديدا مثل (الحداثة الغربية) أو (الحداثة الآسيوية)...الخ وهي الأنماط المتعددة للحداثة التي فرضت نفسها بقوة ووضوح خلال العقود الأخيرة مثل تجارب الحداثة اليابانية والصينية وبدايات تبلور نمط من الحداثة الاسلامية في بعض المجتمعات الاسلامية في آسيا مثل ماليزيا واندونيسيا...الخ والبقية تأتي.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7805» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* خبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة
F_elsaeed@hotmail.com