لا يملك من يقرأ الحوار الذي أجرته مجلة الإعلام والاتصال مع الفنان المبدع سراج عمر.. تلك القامة الفنية السامقة والرمز العالي الهامة في مشهدنا الفني والثقافي، إلا ويشعر بالأسى يتسلل إلى نفسه ويجتاح كيانه! فقد كانت كلمات سراج عمر تحبل بالألم والفجيعة والإحساس بالعقوق والنكران والتحسر على الزمن الجميل الذي أدار ظهره لسراج وللأصالة الفنية والقيم الذي يمثلها رمز في علو وارتفاع سراج عمر مكانة ومعنى. ألقت تلك الأحاسيس الحزينة بظلالها على جل ذلك الحوار؛ لتنقل القارئ إلى أجوائها وتلتصق بوجدانه الذي نعى مع سراج عمر زمن الأصالة والفن الجميل، وهو يرى غثاء الفن وهشاشة القيمة تحتل الشاشات رغم رفض الرافضين واعتراض المعترضين!!
شعرت بألحان سراج تتسلل إلى حواره لتفرض نفسها، ولتشكل خلفية موسيقية حزينة تتسق مع إحساسه الممض بالهجران وعقم الزمان.. سمعت مقادير بصوت طلال مداح الشجي وزمان الصمت وأغراب، ورددت أغراب في رحلة عمر أغراب.. ففي زمن التسطيح الفني والهشاشة والضعف القيمي لا بد أن يشعر الفنان بالغربة تجتاحه وتغلف بقسوتها رحلة عمره! وكأني بموجات الفن الهابطة التي تكتسح عالمنا العربي اليوم تجرف معها كل قيمة وتهشم الرمز وتحاول تشويه المعنى؛ لتساوي بين قامة سراج عمر وما يعنيه ويمثله وبين قامات لا تجرؤ حتى على استراق النظر إليه! فقد امتطى هذا الفنان الأصيل صهوة ألحانه ومضى يسطر فناً راقياً وألحاناً جميلة، نحت بها تاريخاً سيظل مضيئاً ومشرقاً في ساحتنا الفنية والثقافية. وهو يرفض اليوم أن يخضع للموجة وأن يقصقص أجنحة فنه ليمتثل لمقاييس الزمن وطلب سوق العصر الهابطة، وهو إذ يتمسك أيضاً بتاريخه ويحافظ على أصالته رافضاً التغيير والانسياق مع الريح العاصفة، يضع لنا المثال ويؤكد قيمة الرمز الذي يجب أن يسعى الفنان الأصيل للمحافظة عليه. فكيف ينسى صاحب أوبريت التوحيد الذي كتبه الأمير خالد الفيصل أنه صاحب أول عمل سعودي موثق عالمياً من قبل دار ثقافات العالم في باريس؟! كيف يستطيع من هو مثله أن يدير كتفيه لماضيه المجيد وتاريخه المشرف ليقدم ألحاناً يجاري بها العصر؟ ولا بد أن يشعر القارئ بالاعتزاز وهو يقرأ كلماته التي يؤكد فيها أنه لن ينساق وراء أعمال بلا مضامين، ولن يقدم عملاً غايته الرقص.
ولأننا قوم لا نعرف قيمة كبرائنا إلا بعد أن يغادرونا ولا نكرمهم إلا بعد رحيلهم عنا، ونقابل وفاءهم وإخلاصهم لفنهم وقيمهم بالجحود والنكران، فلا بد أن يشعر سراج عمر بأن الموكب يروح ويخليه وأن شركات الإنتاج تهجره، ولا بد أن يشعر بأنه يحارب طواحين الهواء ويعاند الريح السائدة متمسكاً بأصالته عاضاً بالنواجذ على قيمته الفنية وتاريخه العتيد.
يعلن سراج عمر اعتزاله في ذلك الحوار قائلاً: إنني أعلنها وبصراحة.. وبعد مداولات مع نفسي، أعلن اعتزامي اعتزال الموسيقى كلياً، إلا إذا وجدت من يدعمني مادياً للتسجيل بشرط أن يكون الصوت مقبولاً، وقد ترددت في إعلان القرار وفي الإقدام عليه، لكنني لا أجد بداً من أن أعلنها صريحة بعد مداولات قاسية مع نفسي.
وهو إذ يضع شرط القبول في الصوت يعلن ويؤكد أن الزمن زمن الزيف، وأن الأصوات الثرية الجميلة تجفوها وتهجرها الأضواء، بينما تعتلي أصوات ضعيفة المنصات وتكتسح الفضائيات، إذا ما وجدت الدعم المادي والإعلامي المطلوبين للنجاح والاكتساح. وإذا تمعنا في كلماته أيضاً لا بد أن ندرك حجم الصراع الذي خاضه واعتمل في نفسه حتى وصل إلى هذا القرار القاسي، والذي يعني وأد فنه وقتل إبداعه، وحبس ألحانه في دواخله. وحقيقة شعرت بالخجل وأنا أقرأ كلماته فهو يصرح بعالي الصوت أن سيتراجع عن قرار الاعتزال لو وجد من يقدم له الدعم المادي لتقديم ألحان جديدة بصوت مقبول!! وهو يعلن أيضاً في حواره ذاك أنه سيقف إلى جانب المواهب الجديدة والأصوات الشابة من خلال جمعية الثقافة والفنون، ويبتعد عن التلحين والموسيقى والمنغصات (على حد قوله)، وأنه سيصب مجهوداته كلها في استقبال المواهب الشابة وإتاحة الفرصة لهم للانطلاق عبر وزارة الثقافة والإعلام. ويؤكد أيضاً أنه لن يغادر الجمعية مهما كلفه ذلك فمغادرتها تعني له الموت والنهاية.
حريّ بنا اليوم أن ننتصر لمبدعينا وهم بين ظهرانينا، وأن ندعم فناناً بحجم وأصالة سراج عمر حتى يتمكن من الاستمرار في السباحة ضد التيار، وكلي ثقة بأن معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور إياد مدني لن يألو جهداً في دعم هذه القامة الفنية حتى يتسنى لها مواصلة العطاء والإنتاج وإثراء الساحة الفنية بأصيل الألحان وعذب الرؤى.
الحديث عن سراج عمر حديث ذو شجون، ولعله يقودنا إلى التفكير في إنشاء نقابة للفنانين تتعهد شؤونهم وتحتوي همومهم وشجونهم، وتخفف من معاناتهم، ولعل الحلم يأخذنا لنحلق في أجوائه ونتناسى أننا أغراب في رحلة عمر!
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7446» ثم أرسلها إلى الكود 82244
Amal_zahid@hotmail.com المدينة المنورة