لعلّ من أولى السمات الفنية للشعر انفتاحه على التجريب الواعي، وربما كانت هذه الخصيصة من أسباب بقاء الشعر، في ظل ظهور فنون تحيا حيناً من الدهر ثم تموت، أو تتألق حينا، ولكنها ما تلبث أن تخبو.
وقد كان لتغيير موقف المتلقي للشعر في هذا العصر أثر كبير في تغير بعض أنماط كتابته، فلم يعد المتلقي (المعوّل عليه) هو ذلك المستمع الذي تلهب مشاعره الألفاظ الطنانة، وتهيجه للتصفيق كلمات حماسية أو غزلية، بل أصبح ذلك المتلقي منتمياً إلى فئة تتأمل الشعر في صمت، أو لأقل: أن الشعر الجادّ اليوم هو نُخْبيّ في المقام الأول (لماذا يقولون نخبوي؟).
أما هذا الذي يهيج المشاعر، ويستجدي صيحات الاستحسان والتصفيق، فقد انتهى (عمره الافتراضي)، على أن فئة من الناس ما زالت ترى فيه شعراً عالياً، ذا قيمة، حريا بالبقاء، وأغلب هذه الفئة لا تعرف من الشعر إلا أنه (فعولن مفاعيلن)، ولها - مع ذلك - الحق في أن تطرب له وتتفاعل معه، فهذا نمط من الكلام له أهله الذين يتذوقونه على طريقتهم، وأنا أسمي هذا النمط (الشعر العام) وألحِق به النصوص الوعظية والإصلاحية والتهذيبية التي تصاغ بلغة سليمة، وبمقاصد واضحة، توجه إلى عموم الجماهير، فهذه ذات قيمة في مضمونها، وقيمتها الفنية أقل بمراحل كثيرة من قيمة (الأدب النخبي).
وكان مما لفت نظري في (بياض) أحمد قران الزهراني جنوحه إلى توظيف الشكل الكتابي، وإيداعه جملة من المشاعر، وتحميله جزءاً من الرسائل المبطنة، التي ربما لا نجدها ولا نلمس أثرها في الكتابة العادية.
فهو يوظف الكتابة الخارجة عن المألوف، ويحملها جزءاً من الدلالية الشعورية، وفيها ما يشي بالحالة النفسية، والانفعالات الداخلية التي أراد لها شكلاً جديداً، يكون قادراً على إيصالها إلى المتلقي.
وهذا النمط الجديد في كتابة الشعر لا يؤثر في إيقاعه، وهذا ما يدعو للحفاوة به؛ لأن الإيقاع ركن مهم في الشعر سواء أكان على البنية الأم (العروض الخليلية) أم كان على التفعيلة، فوجوده مقياس لانتماء الكلام إلى الشعر، ولكنه ليس مقياسا لانتمائه إلى (الشعرية)، مثلما تقول عن الشخص: هذا رجل، لاكتمال خصائص الرجولة العضوية أو الجسدية فيه، ولكن ذلك لا يعني تحقق (الرجولة) بمفهومها الخُلقي، فأنت تحكم عليه بانتمائه إلى جنس الرجال، ولكن هذا لا يعني تقويم خلقه وطباعه ونحو ذلك.
إن امتدادات الحروف، وتكرار حرف المد يومئ إلى انفعالات قد لا تستطيع اللغة العادية إيصالها، وهذا جزء من التشكيل الكتابي الذي جاء في (بياض)، يقول أحمد قرّان:
قفوا ها هنا
واستعيذوا
من الحلم
مني
من الشعر
والساسة الأبريااااااااااء. (ص17)
فالمد المتكرر لألف (الأبرياء) يحمل شيئا من المعنى الباطن، وكأن في تكراره إيماء إلى التناقض بين المعنى الساذج لكلمة (الأبرياء) والمعنى الذي اجتلبت له، وقد وفق الشاعر في إيصاله بلغة كتابية بسيطة عميقة في الوقت نفسه.
والزهراني مولع بهذا النمط، فقد كرره مراراً:
لقد عزني في الخطاب
له مهجتان وسبع وتسعوووون
ولي واحدة
له مطلع الشمس من غربها
ولي لفحها
والهجير
لي النار في صورة خامدة. (ص19)
ففي (وسبع وتسعوووون) امتداد كتابي للواو، هو أشبه بالأنين الذي لم يشأ الشاعر التصريح به، فركن إلى هذا المطّ الكتابي الذي هو (تكنيك أو حيلة من الحيل التي يعمد إليها الشاعر الحديث؛ ليبرز حالة نفسية)، (موسى ربابعة، جماليات الأسلوب والتلقي 99).
وجنح أحمد قرّان إلى هذا التشكيل مرة أخرى وهو ينادي، والنداء في الأصل امتداد صوتي، ولكن (يا) وحدها غير كافية للدلالة على مقدار الحسرة والفجيعة:
بيروت ترتد الأنا في داخلي
تغفو على شدو الصبابة
بيروت
يااااا بيروت
يرتدّ الصدى متسربلا طوق الرتابة. (ص32)
وفي قصيدة أخرى يوظف مد ألف النداء في (يا) ولكن في سياق مغاير، وإن تشابهت الحال (حال الشاعر) في تراكم اللهفة:
تجيئين يااااا عذبة كاللغة
هتافات عصفورة غانية. (ص51)
ومنها:
تجيئين يا مهجة الروح
حرفاً بهييييجا
كما الضاد
في الأبجدية. (ص54)
ويبدو أن هذا المطّ الكتابي وإن تباينت المواقف التي تحتويه متشابه إلى درجة تجعل الإكثار منه مشوِّها لغة الشعر، فليس ل(بهييييجا) ذلك الأثر الذي ل(يااااا) وربما كان لياء المد دور في عجزه عن التأثير، وهذا حكم قد يستقر عند ربطه بموضع آخر قال فيه:
لقد عزني في الخطاب الجلي المبين
له وردة من حدائق عيني
ولي أرذل العمر
سقط المتاع
قليييييل
قليل من الأجر في لغة التائبين. (ص54)
فمط (قلييييل) له معنى، ولكن تأثيره أقل من تأثير ما جاء في الشواهد الأولى.
ويبدو أن بين اختيار الكتابة على هذا النمط وبين طريقة إلقاء الشعر وشيجة، فكثير من الشعراء حين الإلقاء يعمدون إلى زيادة المد، إلحاحا على المعنى؛ ما يجعل شيئا يهجس في ذهني حول الارتباط الوثيق بين الشعر والصوت العالي.
فهل اعتماد التأثير العيني (نسبة إلى العين) في (بياض) منطلق من إحساس الشاعر بأن شعره مقروء لا مسموع؟ وهل شعر بأن ارتباط الصوت المجلجل بالشاعر ارتباط وثيق، فلم يستطع الانفكاك من هاجس المتلقي المستمع؟
ربما لا أجد إجابة نهائية، غير أني امتثلت - بوصفي قارئا للشعر - لرغبة الشاعر في أن أتفاعل مع معانيه التي توسل إلى بثها بنمط كتابي غير مألوف.
-
بياض، أحمد قِرّان الزهراني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى 2003م.