من الطبيعي أن يوجد اختلاف بين البشر في كثير من الموضوعات والقضايا في مجالات عدة، وهذا الاختلاف يعبِّر عن الإدراك الأولي لعملية النقد، وعلى الرغم من أن هذه العملية ذات تركيبة عقلية إلا أنها وبفعل عوامل مهمة منها اللغة ومستوى الفرد وبنية المجتمع والمؤثرات الخارجية وكذلك عوامل نفسية، حيث إنها بفعل تلك العوامل - وغيرها - تقترب أو تبتعد عن طبيعتها المدركة - بفتح الراء - في الأساس لتشكل احتمالات لاتجاه النقد، وهي احتمالات إما أن تكون إيجابية أو سلبية، ومن ضمن الاحتمالات الإيجابية أن يصبح النقد مفتوحاً بدون أي قيود أو معايير على الموضوع المتناول، أو أن نجده نقداً مرناً يحاول تحقيق الاتزان للوصول إلى نتائج.
ومن الاحتمالات السلبية أن يكون النقد مغلقاً بحيث لا يسمح بمداخلات وآراء متنوّعة إلا بقدر التأييد، والاحتمال الأخير - مع الأسف - هو ما نجده الغالب فيما يقدّم من نقد على الساحة في مجتمعاتنا.
وإذا تصفحنا كتاب التاريخ الإنساني بكل ما يحويه من مجالات، نجد أن النقد موجود في كل مجال على اختلاف أدوات وموضوعات وأهداف تلك المجالات، فهناك النقد الأدبي والنقد التاريخي والنقد الاجتماعي والنقد العلمي والنقد الفلسفي إلى غير ذلك من أنواع النقد المحتملة بحسب المجال المعني.
وعلى اختلاف مجالات النقد إلا أن الروح النقدية لكي توجد لا بد أن يرافقها مقاصد البناء والحيادية، وما تستلزمه تلك المقاصد من أولويات في الاستيعاب للموضوع وللذات، وأولويات في معرفة المعاني والحقائق، وأولويات في تطوير الفكرة - كهدف انطلاق - حتى وإن لم يتم التوصل إلى نتائج.
فمثلاً تتحقق الروح النقدية عند تناول العمل الأدبي إذا تمت الإحاطة بموضوع العمل وفكرته داخل الشعر أو الرواية أو المسرح أو الدراسات الأدبية، ومن جهة أخرى فهم المعاني التي قصدها المبدع على قدر الإمكان بالاستعانة بأدوات مصاحبة أثناء النقد.
ونجد الروح النقدية عند تحليل موضوع تاريخي تتمثّل في تشريح الجزئيات والأحداث ومدى توثيقها بالإضافة إلى مقارنة ذلك بالمسارات الحضارية للإنسان.
ونفس الرؤية النقدية ومقاصدها من الضروري أن تتحقق عند تناول موضوعات اجتماعية وعلمية وفلسفية بحس نقدي دون الخروج عن شروط الروح النقدية. لذا فإن العملية النقدية تقترب من طبيعتها، وتكون نزيهة بقدر ابتعادها عن الهدم والتحيّز الشخصي، وبقدر ارتباطها بشروط احترام حرية وأخلاق الإنسان.