(لا تسلني يا ولدي كيف أكتب نصوصي الأدبية.. إنها عبارة عن ومضات معبرة عن شحنات التفكير في هاته الحياة).
من حديث محمود المسعدي لسيار الجميل، مارس 1986
مقدمة
مضى على رحيل الأستاذ الأديب التونسي محمود المسعدي أكثر من سنتين من دون أن نقرأ عنه شيئا ذا بال، وكنت قد كتبت سلسلة مقالات نقدية في تحليل بعض أعماله الأدبية عندما كنت اقطن في كل من تونس والجزائر والمغرب قبل أكثر من عشرين سنة، وخصوصا في الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية في الجزائر.. وعندما سمعت برحيله قبل سنتين، نشرت عن الرجل مقالتي في مجلة (الأسرة العصرية) التي كانت تصدرها مؤسسة البيان في إمارة دبي، عندما كان يحررها الصديق الأديب رأفت السويركي. وقلت وقت ذاك ما نصّه:
لا يمكن أن تمر ذكرى أربعينية الراحل الأديب التونسي محمود المسعدي في يوم 25 فبراير - شباط 2005 من دون أن أتوقف قليلا عندها.. ولنتعلم قليلا من عالَم رائع خلاق تركه المسعدي من ورائه وستحتاج إليه الأجيال القادمة ما دامت ستبقى باحثة عن سر انطلاقها الذي استعصى كثيرا على أجيال تلو أجيال منذ أكثر من مائتي سنة.
إن الراحل محمود المسعدي أديب من نوع خاص جدا لا يجود بمثله الزمن إلا لماما.. نعم، إنه أديب حقيقي غير مزيّف كغيره.. إنه أديب بالعربية قبل أن يكون رجل سياسة وفكر وعلم وإدارة.. وأعترف أنني لم أزل أتذكر جملا وفقرات من عباراته الصعبة التي كتبها في بعض أعماله المتميزة.. وأعزو الفضل لأكثر من صديق أدخلني إلى عالم المسعدي بكل عجائبه وغرائبه عندما كنت أقيم في كل من تونس والجزائر والمغرب إبان الثمانينيات.
واستطردت قائلاً: لقد كان محمود المسعدي واحدا من الذين يؤثرهم الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الذي عرف بذكائه في اختيار رجالاته؛ إذ أسند له أكثر من منصب في الدولة التونسية خلال مراحل معينة من حياتها التاريخية المعاصرة، وأشهرها وزارتا التربية القومية والثقافة اللتان كان لقرارات المسعدي فيهما تأثير بالغ في الأجيال التونسية اللاحقة، ولما تزل الآراء في مجتمع النخبة التونسية حتى اليوم منقسمة حول تلك القرارات! نعم، لقد وجدتها حتى لسنوات أربع منصرمة وهي متفاوتة في تقييم قرارات المسعدي بين مؤيد لها ومعترض عليها.. لقد رحل عنّا المسعدي قبل أيام إلى دار الخلود بعد أن عمّر 93 عاماً. إن ما يهمّني من الرجل في ذكراه إبداعاته لا قراراته.. وأدبه وليس مناصبه.
وقفة عند حياته وجهوده
ولد محمود المسعدي يوم 23 كانون الثاني (يناير) 1911 في مدينة تازركة بولاية نابل والحمامات بتونس، وتلقى تعليمه الأولي والإعدادي والثانوي للفترة 1926 - 1933 متمما تعليمه في المعهد الصادقي عام 1933، وواصل تعليمه الجامعي في كلية الآداب بالسوربون (جامعة باريس) للفترة 1933 - 1936، إذ أقبل على إعداد أطروحته الأولى (مدرسة أبي نواس الشعرية)، وأطروحته الثانية حول (الإيقاع في السجع العربي)، إلا أن ظروف الحرب العالمية الثانية قد حالت دون إتمامهما، ونشرت الثانية - متأخرة - بالعربية والفرنسية، قام المسعدي بالتدريس الجامعي في فرنسا، وبعد أن حصل على الدكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربية في العام 1947 عاد إلى تونس، وكان قد انخرط في العمل السياسي منذ شبابه المبكر، إذ إنه ناضل في صفوف الحزب الدستوري منذ سنة 1934 وفي صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل منذ سنة 1948، وشغل مناصب سياسية عدة إذ تولى لمدة عشر سنوات من أيار (مايو) 1958 حتى حزيران (يونيو) 1968 وزارة التربية القومية، فأدخل على التعليم التونسي الإصلاحات الأولى اللازمة التي أدت إلى إرساء نظام تربوي تونسي. وأعد أول مخطط عشري لنشر التعليم 1958 - 1968 لتمكين كافة الأطفال التونسيين من حقهم في المعرفة.
كما أسس الجامعة التونسية التي صدر قانون إحداثها سنة 1960، وانتخب عضوا بمجلس النواب منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 1959، وأعيد انتخابه في سائر الدورات النيابية، كما انتخب رئيسا لمجلس النواب في تشرين الثاني 1981، وشغل هذا المنصب حتى تشرين الأول (أكتوبر) 1987. وكان محمود المسعدي سنة 1975 وراء تأسيس مجلة (الحياة الثقافية) الشهيرة بتونس حين كان وزيرا للشؤون الثقافية، وكان أول مدير لها، ولا تزال تصدر عن هذه الوزارة حتى الآن، وتوفي الرجل في 16 ديسمبر - كانون الأول 2004م.