بعض أصدقائي من الأكاديميين المرموقين يصرون على مفاجأتي باهتمامات إبداعية تبعدهم كلياً عن رصانة البحث الأكاديمي وعقلانيته، كأن أكتشف أن أحدهم رسام أو عازف لآلة موسيقية أو شاعر وغيرها من ضروب الإبداع وذنوبه.
أقول هذا وبين يدي الإصدار الجديد لصديقي الباحث والناقد العراقي الدكتور محمد صابر عبيد وعنوان هذا الإصدار (رسائل حب بالأزرق الفاتح) وفوق هذا وذاك يتصدر الكتاب تقديم من الشاعر نزار قباني، وحتي لا يتهمه أحد بأن هناك من كتب التقديم ونسبه لنزار بعد وفاته حرص على تصوير هذا التقديم بخط يده، ولم يكتف بوضع الصورة داخل الكتاب فقط بل وعلى غلافه أيضاً.
عندما أعدت قراءة أسماء مؤلفات د. محمد صابر عبيد التي يحرص على إلحاقها بكل كتاب جديد له، وهذه فضيلة أكاديمية لم يأخذ بها كثير من المؤلفين لم أنتبه إلى أن بين إصداراته مجموعتين شعريتين صدرتا عام 1999م هما: (أحزان الفراشات الكهربائية) و (يوميات جواد طاعن في السن).
إذا كانت عيناي تذهبان إلى عناوين مؤلفاته النقدية التي عرف بها ونال بعضها جوائز معروفة قبل جائزة إمارة الشارقة للإبداع العربي (1998) عن كتابه (السيرة الذاتية الشعرية) وجائزة الدولة التقديرية (العراق) عام 2002 عن كتابه (القصيدة العربية الحديثة) إضافة إلى جائزة اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في النقد الأدبي عام2000 عن كتابه (المتخيل الشعري). ود. محمد صابر عبيد الحاصل على الأستاذية منذ عام 2000 هو أيضاً أستاذ النقد الأدبي الحديث وأستاذ المناهج النقدية الحديثة والنقد التطبيقي في الدراسات العليا.
نعم، فاجأني كتابه (رسائل حب بالأزرق الفاتح) الذي أرسله لي بريدياً من مدينته الأم الموصل حيث يقيم ويدرّس في جامعتها وجامعة تكريت أيضاً.
أما مكان طبع الكتاب فهو حلب الشهباء جارة الموصل وشقيقتها الرؤوم.
يهدي المؤلف رسائله إلى (أمونة) وهو اسم دلال ربما اشتق من آمنة أو أمينة أو إيمان فهو تصرف بالاسم تفرضه الدارجة العراقية على أسماء التحبب. وقد عنون هذا الإهداء ب (أكبر من الإهداء). والإهداء هو مقاطع من رسائل إذ لم يستطع الابتعاد عن مناخ الكتاب فهو يصف المهدى لها بقوله (هذا الهاجس الفذ الذي حول قلبي إلى متاهة، تخزن في ضياعها الوارف كنوز الحب والشعر والدهشة، كما حول جسدي إلى رؤيا تتفتق منها ينابيع ثمار وحلوى آمال).
وهذا مقطع واحد فقط من الإهداء، وهناك مقاطع أخرى لا تقل عنه لذة. أما تقديم نزار قباني فيعود لعام 1984 بعد أن زار الشاعر بغداد مدعواً لمهرجان الأمة الشعري وكان ضيف الشرف فيه، وهذا التقديم في الأصل رسالة من قباني للمؤلف وفيها - رغم قصرها - يتألق قباني كعادته رقة ودعابة.
يقول قباني: (قليلة هي الرسائل التي تحضني وتحرضني وتعطيني مفاتيح الدهشة، ورسالتك استوفت كل شروط التحريض فماذا تريد أكثر؟).
ويقول أيضاً: (.. وما أكثر كتابنا الكبار الذين إذا كتبوا رسالة، أي رسالة، تمنى ساعي البريد أن يغتالهم).
وهذه ملاحظة صحيحة، فشاعر كبير مثل بدر شاكر السياب كانت رسائله التي جمعها صديقنا الناقد ماجد السامرائي في كتاب جافّة، كأنها عرائض استرحام، ولكن تألقه كان في شعره.
إذ إن نزار قباني يعتقد بأهمية الإبداع في الرسالة إذ يكتب للمؤلف في رسالة أخرى قائلاً: (الرسالة عملية إبداعية خطيرة، وقد تكون أهم من قصيدة وأخطر من ملحمة ولو طلبت إلى رواد الشعر عندنا أن يكتبوا رسالة - أي رسالة - لارتبكوا).
كما أنه ينصح المؤلف بقوله: (منذ رسالتك الأولى إلي شعرت أنك تلعب على الورقة جيداً، وتعرف كيف تخطف الأضواء والأبصار. فأرجو أن تستمر لاعباً بارعاً وذكياً وخفيف الحركة والظل، وأن لا تبقى مسجوناً في الدراسة الأكاديمية).
ونزار قباني الذي أحب العراق واقترن بسيدة منه هي المرحومة بلقيس الراوي وأحب حب العراقيين للشعر وإصغاءهم له، يقول عنهم في رسالة للمؤلف: (والعراقيون لا يشبههم شعب في الدنيا، في علاقتهم بالشعر وفي تعهدهم له، لذلك كلما ذهبت إلى العراق ورجعت منه أشعر أن حجم قلبي صار بحجم الكرة الأرضية).
عدد الرسائل التي وجهها د. محمد صابر عبيد والمكتوبة (بالأزرق الفاتح) هو ست وعشرون رسالة. وقد ارتأى الأماكن التي كانت مرتعاً لتلك الطفولة البعيدة وأنواع الراقصات وأسماء الحبيبات أيضاً.
فالرسالة الأولى مثلاً عنوانها (أمطار طرسها القصب) وربما كانت من وحي لقاء بغدادي بامرأة ولذا يتحدث عن بغداد وسخائها معه عندما جعلته يلتقي هذه المرة التي عطرت خطواته الموصلية - إذ هو قادم من الموصل - يقول لها: (الطريق إلى بغداد هذا الصباح المبلل بالشوق مثير للتأمل والتحمل، الطفولة معلقة مثل فانوس خجول في الذاكرة، وهي معلقة مثل قمر فضي في الحلم.. فكأن سراباً ضبابياً ينقر وجهي الرطب من وراء الزجاج).
وتمضي لغة الرسائل كلها بهذا الافتتان الباذخ الذي ينسينا أننا أمام أستاذ جامعة بل نحن أمام شاعر سرقته أحلامه من واقعه ومضت به بعيداً في تهويماتها.
والمؤلف لا يكتفي بما لديه من أقوال مختزنة ارتأى أن يفك أسرها بل حفلت رسائله بما يمكنني أن أسميها (الإحالات) إلى أسماء معروفة. ففي هذه الرسالة مثلاً يحضر بودلير الشاعر الفرنسي المشهور، كما نجد في الرسالة إحالات على أصدقاء للمؤلف وبأسمائهم من عهد الطفولة غالباً، وكذلك أسماء وصلة من اشراق في قارورة واحدة.. أي عطر ذاك الذي يمكن أن يستيقظ من هذا القلب، وهو يجيد التحدث بلغات العالم كلها، ليمسح من زجاج الكرة الأرضية ما علق بها من شرور وآثام).
وفي الرسالة تأتي الإحالات لصوفي مارسو (الممثلة الشهيرة) وكذا لوحة (عذراء الصخور) لدافنشي.
أما الرسالة الثانية المعنونة (حروف مجففة بالعطش) فيوزعها على مقاطع مرقمة، تتفاوت في الطول، فالأول منها مثلاً جاء في سطرين: (الفم يكافأ عادة بحبة تين.. ويكافأ الأنف غالباً برائحة التفاح).. انتهى المقطع.
وهو ثري مليء في قصره وكثافته، وفي هذه الرسالة هناك إحالة على بول فاليري، ويتلبس المؤلف حالة الشاعر عندما يتذكر قول فاليري (إن البيت الأول من القصيدة هدية من السماء)، فكأننا بالمؤلف وهو يجهد ليحيل رسائله إلى قصائد، أو أنه يريدها هكذا، أما البيت الأول عنده فهو (الفجر) الذي يصفه بأنه (تلك الهدية التي تلقيتها من السماء) ويمضي الاستطراد في تألقه: (إذ حطت كل الأفعال في حجري، فانتخبت منها فاكهة بنضج بركاني، وألف بنرجسية لها فناء، وتمراً يسيل منه العسل، وشكلت منها قنديلاً طبعته على خاصرة الشرفة، لأحتمي من خلاعة عيني ومن رغوة الكلام الحبيس في شتاء روحي).
في الرسالة الثالثة (أخطاء الفراشات) محطات تألق أخرى حيث تبتعد الكلمات عن كل صدأ قد يعلق بها، يقول: (كيف سأجمع سرباً من العصافير، وحقلاً من سنابل ذهبية الثراء، المؤلف د. محمد صابر عبيد أن يضع لكل رسالة من هذه الرسائل عنواناً يلي رقمها.
رسالة المؤلف الرابعة استحوذ عليها مهرجان المربد المعروف بداية من اسمها (خميس المربد الحادي عشر) وتحدث عن معرض الفنانات العراقيات الذي أقيم بالمناسبة، يقول: (هل قلت إننا بدأنا من مركز الفنون في ذلك الحميس المربدي الغافي على أرصفة المحبين وهم يراقصون أحلامهم، ويلفّون الكلمات على أصابعهم المنقوعة بالفوضى؟ نعم. كان ذلك صحيحاً وكثيفاً ومخيفاً).
ويذكر أن الفندق البغدادي المعانق لدجلة (المنصور ميليا). قد (اكتسب عبر مرابد متعاقبة صفة شعرية رغماً عنه) لأن هذا التوصيف الذكي ينطبق تماماً على هذا الفندق الذي توالت عليه المربد (فكان سهلاً عليه أن يفهم تمتمة الروح، وأسرار الحيرة، وارتجاف العصافير، وقلق التجليات) على حد وصف المؤلف الذي لم ينس الاحتفاء بالأصدقاء الذين أثث حضورهم المهرجان حيث يذكرهم بأسمائهم، كما لم ينس أسماء بعض الرسامات اللواتي توقف عند أعمالهن.
كأن رسائل الكتاب سمفونية حنين وفرح لا تخبو أي نغمة فيها أو تشذ عن أوركسترا النشيد، لا بل إن بعض الرسائل يمكن تقطيعها كتابة لتكون قصائد وجدانية عالية.
لنقرأ مثلاً:
( لا سبيل للتورط في الحزن من أجل رحيل مشترك، يجمع ما تبقى من شظايا المواعيد المرهونة بالخطايا، والولع المثقوب بالجنون وأشجار (منّ السما) والسعال الماكر.
لا سبيل إلى الاحتفاظ بمذاق الطعنة في الحلم الممسوس. لا سبيل إلى حجر طائش يصيب مئذنة).
ولنقرأ أيضاً: (كيف يمكنني أن أعلم الحصان البري كيفية التمرد، والنهر كيفية الجريان، والشمس كيفية صناعة الدفء والضوء, والعينين الصافيتين كيفية البكاء، والعاشق كيفية الحلم؟ كيف يمكنني نزع الجلد عن التمثال؟ وقراءة (نفوس ميتة) على أنها فكرة (بوشكين) وسرد (غوغول)..؟).
في الكتاب هناك رسائل تعني مناسبات ثقافية محددة مثل ندوة للأدب الكردي وأخرى (بيان سردي في مواجهة الجحيم) وهي حديث حول ندوة عن القصة العراقية، ومثل (رسالة متأخرة إلى تشيخوف) وفيها يخاطبه كالصديق باسمه (انطوشا) الذي يناديه به أصدقاؤه حيث يسأله وكأنه جالس معه: (هل كنت تعاني وطأة مجيئك السافر بعد غوغول وديستويفسكي وتورجنيف وتولستوي؟ وهل كنت تشعر بشد عصبي وأنت تقف بين أخلاقيات تولستوي ويساريات غوركي؟ وهل كنت تخبر صديقك سوفورين حقاً بكل شيء؟ وهل كنت قادراً على الانتحار من دون مهدئات ومن دون ذلك الشراب الغازي الذي يصنع من اللبن المخمر؟.
ولعل الأكاديمي في المؤلف قد استيقظ هنا من انسرابه الحلمي في عالم الرسائل ولذا كانت هذه الأسئلة النقدية المفترضة أمام تشيخوف.
هذا كتاب جميل، شاعري، حزين على طريقته وقد قرأته شخصيا كديوان شعر قول هذا غير مبالغ أبداً.
صدر الكتاب من منشورات دار كلمات للفنون والنشر في حلب - سوريا 2006م.