(1)
قال الأستاذ الناقد عبدالله عبدالجبار عن الأستاذ محمد حسن عواد: وإذا أمعنا النظر في شعر الواعد ألفينا أكثره شعراً ذهنياً يغلب عليه التأمل الذاتي والنزوع الفلسفي ولا تكاد تجد فيه عاطفة أو إحساساً عميقاً إلا في النادر وهو في هذا يشبه أستاذه العقاد. وقال: ولكن شيئاً هاماً تفتقده في شاعريته، وهذا الشيء هو وهج الشعر وجمال موسيقاه، هو الكهرباء التي تهزنا (4).. ولعل هذا التوجه في شعر أديبنا الكبير، هو ما جعل الدكتور حسن الهويمل يسقط اسم العواد من الشعراء، فقد قال مشافهة إن العواد ليس شاعراً.. لكن هذا الحكم المتعجل ينقصه حكم الدرس والتحليل والتأمل البعيد، وعندي أن ليس شعر العواد كله خاضعاً لمنحي الذهنية والنزوع إلى الفلسفة، ذلك أننا واجدون فيه بوارق تنزع إلى التصوير الجميل الماتع ذي المعاني الجديدة التي تخاطب العاطفة الإنسانية والمعاني المتسقة التي تنبع من حركة الحياة والجمال فيها والرؤى المنداحة في جماليات الكون وما فيه من بديع صنع الله.. وبقراءة كتاب أستاذنا عبدالجبار الذي يحمل العنوان نفسه، إلا أنه يختص بالنثر، وهو مخطوطة تحارب لم تطبع من قبل، قال المؤلف: "محمد حسن عواد الذي يدعو إلى حرية عصرية تحارب الأوهام والخزعبلات، حرية في الألسنة والأقلام والضمائر والأفكار، الحقائق، ولكنها حرية معتدلة لا تفريط فيها.. وباختصار نكون أحراراً معتدلين منصفين لا أحراراً متطرفين، فإن الاعتدال هو روح التوازن في كل شيء، والتطرف قبيح جداً بالعقلاء (5) هذه الآراء المتطورة ساقها العواد وهو في عقده الثاني من عمره، وقد كانت رؤاه المتجددة بعيدة المرامي.. كما أعلن أن أحسن وسيلة لتربية العقل هي التفكير بحرية، وعدم قبول الأشياء على علاتها.. هذا المنطلق جاء في (خواطر مصرحة) للعواد، ص 95.
(2)
وحول ممارسة العواد النقدية، تقول آمنة عبدالحميد العقاد في قراءة العواد لديوان البسمات الملونة: للشاعر الأستاذ حسن عبدالله القرشي: (والعواد هنا ناقد) وجداني، يعتمد على التأثير الذاتي أكثر من اعتماده على المقاييس الموضوعية، مثل قوله: أرى شعرا عاطفياً بحثاً ذا وتر واحد مطرد، تنعدم بين ثناياه النزعة العقلية (6) ولا عيب عندي أن يتخفف الشعر العاطفي من الهيمنة العقلية، لأنه سيجمد أو يتحول إلى فلسفة حينئذ.. والنقد غير المنهجي الذي توقفت عنده الكاتبة من خلال قراءتها لما كتبه العواد عن بعض دواوين الشعر، مثل القرشي وإبراهيم فوده، سعد البواردي، مرد ذلك عندي، أن أديبنا العواد يعتمد على الذائقة بجانب اهتمامه بالأوزان والنقد الذاتي التفسيري والجوانب اللغوية والنحوية والبلاغية لأنه لم يدرس النقد المنهجي الذي عرفه الدارسون في الجامعات على أيدي رواد كبار في العصر الحديث، فأتيح لهم أن يتلقوا دراسات عليا متطورة من مدارس عبر قراءات جديدة، وما جد من الدراسات الغربية في القرن العشرين.
(3)
ونجد الدكتور محمد عبدالرحمن الشامخ، في كتابه: النثر الأدبي في المملكة العربية السعودية، يتوقف عند نثر العواد، ويركز على كتاب أديبنا الأول (خواطر مصرحة) فقال: إن العواد كان رائداً من رواد الحركة الأدبية التجديدية في هذه البلاد، ويشير إلى ذلك الزمن المبكر لبدء النهضة الأدبية في بلادنا، فيقول: فإنه قد أصبح في هذه الحقبة من أبرز هؤلاء الأدباء الناشئين المتحمسين.. ومما يمثل إنتاجه النقدي في هذه المرحلة مقالة نشرها في كتابه (خواطر مصرحة) بعنوان (البلاغة العربية) (7) وقد أوضح في هذه المقالة بأنه حاول جاهداً منذ بدأ دراسة البلاغة في مدرسته، أن يكتشف جوهرها، ويتلمسها في التراث الأدبي لعصور اللغة العربية الأولى فلم يجدها.. ويعلق المؤلف على ذلك، بأن الشاب العواد لم ينل ما يكفي من المرانة والدرس حتى يصدر حكماً بأنه لم يقف على ما يبحث عنه في شأن البلاغة لا سيما في أزمان العربية الأولى.. ويمضي الدكتور الشامخ في هذه الوقفة مع العواد التي شغلت نحو ثماني صفحات من كتابه، فيقول: ولكن إعجابه الشديد بمفاهيم الأدب الحديث قد أعطاه من الجرأة ما جعله يأخذ على عاتقه تلك المهمة العظمى، مهمة تقويم الخصائص الفنية في تراث الأدب العربي. ولا عجب بعد هذا إن أتت رحلته السريعة خلال القرون مجرد تأكيد لتحيزه لمفاهيم الأدب المعاصر.
ويستعرض الشامخ ما ذهب إليه العواد في تصوراته، عبر كتب التراث، وهو يبحث عن البلاغة، فيقدم نماذج لكتب قديمة باختياره، مثل: جواهر الأدب، مولد البرزنجي، البردة والهمزية، وما سماه كتب الأشياخ، والمقامات، كتب السعد والجرجاني، وشعر المولدين، والمعلقات، في الجرائد، التي وصفها بأنها خروق بالية وأديم ممزق، فتوقف عن البحث، وحين عاد إليه مرة أخرى، نراه يقول: فوجدتها رعداً يقصف من نبرات القرآن، ومقالات بعض كتاب سورية، فهززت يدي وصافحتها، ووجدتها ورداً ذابلاً في مقالات بعض كتاب مصر، ووجدتها في شعر المتنبي ينبوعاً يحاول الانفجار فلا يستطيع.. ثم وجدها في مترجمات فولتي وموليير وشكسبير وبايرون وجوته، فقلت واهاً لمجد شعراء الغرب.
لعل العصرنة دفعت الشاب العواد إلى الانبهار بالأدب المعاصر عند اللبنانيين في المهجر وفي الأدب الغربي المنقول إلى العربية.. ولعله رأى أن سرعة تطلعه إلى أدب متحرك جذاب في أسلوبه ولغته وطرحه وأفكاره، ما دفعه إلى الحكم على الأدب القديم بأنه لا يماشي مزاجه، وبالتالي فلا يعجبه، وهو قد وقف وأشار إلى بعض المؤلفات الهزيلة فضرب بها المثل، ولعله معذور، فإن سنه الغضة وتطلعه السريع إلى الجمز صرفه إلى الأدب الحديث المتلألئ، غير أن هذا لا يغني أي دارس عن تراثه العربي ومخزونه العميق الفاعل، لأنه عدة من لا عدة له، لكن سرعة التكيف مع الحياة وطموح شباب متعجل، أثقله أن يعمق درس تراث أمته.. غير أن أديبنا حين نضج أصبح بجانب توجهه إلى الآداب الجديدة لا يصرفه عن التراث العربي الزاخر بالكنوز والمعرفة والقوة والعمق..
ويتوقف الدكتور الشامخ عبر هذه الدراسة، عند صدور صحيفة (صوت الحجاز) وما حفلت به من نقدات شبان متحفزين للجدل والعراك، فيشير إلى نقد العواد للقصة القصيرة التي كتبها الأستاذ الأديب عبدالقدوس الأنصاري بعنوان (مرهم التناسي)، فتصدى لها بالنقد على منهاجه في العنف، وهذا العنف استمر معه طوال حياته لم يتخل عنه، وكان مرد هذا النقد غضب الأستاذ الأنصاري والمقربين منه، وكما يقول الشامخ: إن نقد العواد لهذه القصة أفرز حرباً كلامية امتد بها الزمن وعنف عمقها، وقد جنح العواد إلى هجوم وتعابير قاسية مؤلمة، فوصف أولئك المتصدين إليه بقوله: ورأى الناس على صفحات صوت الحجاز أو حالا من أقذار الذهن الكليل ليس من كرامة النفس، ولا من كرامة الفكر أن تتنزل إلى الإجابة عنها، ويعلن الدكتور الشامخ أن العواد في نقده التهكمي اللاذع متأثر بما صنعه ميخائيل نعيمة، حين هاجم الشعراء المقلدين.
وتصدى يوسف ياسين الذي كان رئيس تحرير صحيفة أم القرى يومئذ إلى كتابة عشر مقالات، انتقد فيها كتاب خواطر مصرحة إبان صدوره، وكان يوقع تلك المقالات باسم (قارئ) وجنوح يوسف ياسين إلى عدم إعلان اسمه دليل على عنف حال تلك المرحلة، وقسوة المتصدرين للنقد والعراك من شبان تتدفق الدماء الفوارة في أوداجهم وشرايينهم، وأمام من يتصدى في الساحة للنزال يجد قوى لا طاقة له بها من القسوة والقوة والعنف.. ووقفات العواد وتصديه لما سماهم - المتشاعرين - فنقرأ في خواطره: أواه كل هذه أيها المتشاعرون صديد فكري، وقيء لو أنفق العمر أجمعه في مثلها لما وصل الناظم إلى الشعر.. الشعر الجميل، أما أمثال هذه المقيئات فاعلموا أنكم على بعد 987000 كيلو متر من الشعر.
ويذكر الشامخ أن نقد العواد: قد اتسم بالمغالاة والتحدي، ولم يسلم هو نفسه بما عاب به خصومه من تعصب وضيق أفق.. وأكد الدكتور الشامخ أن إنتاج العواد الأدبي، قد أصبح بعد مرحلة الشباب أكثر أصالة وعمقاً.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244