الصحراء..
(المواسم والسور المكين):
تتعدد تقنيات السرد المحكومة برؤية فنية مدركة لمراداتها الدلالية.. ولتوطين حكاية (كهذه) في ضمير التلقي.. لا بد من كشف المكان.. وفضح منطوياته وتعرية نماذجه الشخصانية.. وإعادة رسم فصوله وخارطته الاجتماعية واستحثاث أنساقه المخفية والمضمرة، على التمدد الأفقي والرأسي في فضاء السرد، بمكاشفة واعية - دون استعارة قناع وهمي أو ترميز مغلق - يفض مغلقات ذلك (المكان/ الصحراء) التي بدت تتاخم تكتلات المدينة ومجمعتها الحضري. ودون انفكاك من رهانات الماضي وتراكمات أنظمته وتقاليده.. المترسخة في ضمائر الشخصيات.. ولا تكاد تمحوها كل مراحل التحول الذي طالت المكان. ودون أن تمس العصب الحساس للأفكار القارة في أعماقه..؟
لأن تلك الأفكار والقيم والمواقف؛ بحسب امتثالها النصي هنا.. تملك من الحصانة والتمكن في قرارات الوجدان؛ ما يجعلها متمنعة ضد أي اختراق.. رافضة لأي جديد أو طارئ..؟.
** ففصول المواسم الصحراوية التي نصت عليها الساردة (المربعانية، نجمة الشمال، الوسمي، سعد السعود، طباخ التمر، سهيل...) اصطلاحات اتفق عليها نظام التداول في أدبيات اللغة المحكية.. وتواقيت تترتب عليها مسارات الحياة وأنشطتها التقليدية لمجتمع صحراوي.. يظل يبحث أبداً عن مواسم الخصوبة والمطر.. فيما تؤصل فيه الصحراء كينونتها الجافة ومزاجها الحارق.. وغالباً ما ارتبطت تلك المواسم؛ بمواقيت التحولات والحقب الزمنية لإنسان الصحراء.. إضافة إلى ما ترسخ لها وعنها من مفاهيم وتصورات في الذهنية الشعبية.. عبر ثقافة تؤمن بخير وشر هذه الفصول ومحاميلها.. حيث إنها مطالع للفأل الحسن.. أو العاقبة الموجعة..؟
وقد استثمرت الكاتبة هذه الثقافة السائدة..؛ كتقنية لتوجيه الأحداث.. لتوافق تلك المواسم اتجاهات الدلالة السردية.. مبرزة رسوخها في الوجدان الصحراوي كثقافة تقليدية شعبية؛ تأخذ بعداً مؤثراً في العقل الجمعي وتوجيه السلوك، وهي الحتميات التي أتقنت الكاتبة التعبير عن استيطانها وتأصلها في ضمير الشخصيات, لتحملها العديد من مآلات الأحدات.. وتوظفها كتقنية توجه الوقائع السردية..؟..
** ففي مطلع الشتاء توفي (صالح) وتلته (بهيجة) في مستشفى (المايوكلنيك) حيث كانت تأخذ جرعتها الأولى من الكيماوي..!
فليست تلك المواسم إلا نبوءةً لمستقبل مجهول.. وحيرة استشراف للجديد من التحولات والأحداث.. تستبق القلوب عند مقدمها نهايات القلق الدائم.. وبدايات الانتظار الطويل.. وعليها تؤسس مشاريع معيشها اليومي.. في ظل ما يتاح من إمكانات.. كما أن لها ذلك المدى من التأثير النفسي العميق.. وتقلبات الجوارح، وسكونها وحركتها في فلك الصحراء وأهلَّة ليلها.. التي كانت (بهيجة) ترقبها من سطوح بيت (آل معبل الطيني) وتحملها تباريح شفَّها الأسى.. وتعاويذ تحن إلى استواءات البحر في الشام حيث انبثقت كينونتها..؟
وهي المواسم التي تكابد (سعاد) زوجة (سعد آل معبل) انتظاماتها القاسية وهي تتجرع مرارة خيانات زوجها وشبقه العارم بالشراب وانتظار دورها في المبيت معه.. وقد وزعه على امرأتين غيرها..؟..
** وهي ذات المواسم التي تمر وتعبر على سيرة (البحريات) الغارقة في جوف صحراء قاحلة.. وخلف سور المدينة المكين.. الذي كان رمزاً طوعت الكاتبة حضوره النصي.. لتجعل من (شخصياتها) طيوراً قلقة في فلكه.. تتلصص من ثقوبه.. بحثاً عن معنى للحياة.. التي جففت الصحراء لونها الفواح.. داخل الجدران والأبواب المغلقة..!
** (سعاد) التي استجابت لشرطها الإنساني فخيَّل لها أن (متعب) ربيب الصحراء خريج الجامعات البريطانية.. هو مستجارها من فحيح الغربة ومواسمها الخانقة.. فأذاقها لذة الكلام.. وصبابات العشق المحموم.. مفردات تفكير غريبة.. تتجاوز بها جدران ذلك السور.. الذي يحتوي داخله بيوت (آل معبل)..؟
وما أن تقترب منه.. حتى تتكشف لها تلك الجينات الخفية والمشاعر المقنعة لفحل صحراوي.. لم ترتو روحه بعد من حواس امرأة..؟
ولم تكن (سعاد) غير رقم في مدونة طويلة.. يختارها بعناية.. أو تفرضها صدفة القدر أمامه ليتربص بها بغويات اللغة.. وقشور التمدن.. فيما تلتهب في أعماقه.. صبوات الفحل.. الذي ترهقه كذلك.. متغايرات العقل والواقع.. والقناعة والسلوك..!
** وإذا كان الجنس من مكونات الحياة الأساسية، واشتراطات واقعها الصميم. ومن ثم كان مواتياً استدعاء الراوية له؛ كونها صنيعا جماليا.. موازيا لذلك الواقع وتلك الحياة.. فقد أدركت الكاتبة المسافة الجمالية بين (الأيروتيكي والبرنوغرافي).. فكان احتواء أسلوبها السردي لطبيعة مواقف تعبر عن تلك الرغبة الإنسانية الحميمة, في إطار لغوي أسلوبي رفيع.. لم يتدن إلى مستوى الكشف الصريح، الذي استعاضت عنه.. بوعيها بتلك (المسافة).. وتكنيك صياغتها للمشاهد بشكل يفصح دون ابتذال.. ويصف دون إغراق مشهدي فاقع.. قد لا يفسح مجالاً لاستخدامها للمجاز الوصفي وتورياته المشوقة.. والمهارة التعبيرية في استثماره أسلوبياً.
وقد كان بروز شخصية (سعد) الذي غاير صورياً السائد العام لأبناء (الصحراء) المتمدنين.. في تلك المرحلة.. إشارةً إلى شيوع ثقافة سياسة ما..؛ كانت التسعينات الهجرية سياقها الزمني.. فيما كان المد القومي أبرز تحققاتها.. ومتداول شعاراتها السائدة في المجتمع العربي آنذاك؛ فيما لم يتقن (سعد) من حقيقة تلك الثقافة, إلا ذلك الأفق المتصل بانزياحه المرحلي, من حياة البداوة إلى معترك المدن وثقافاتها والاهتمامات والأفكار السياسة الشائعة لدى بعض طبقاتها.. والتي امتدت لتشمل العواصم العربية.. ومن ثم شكلت وسائل الاتصال التقليدية آنذاك.. والنخب المثقفة الخارجة عن السائد الاجتماعي العام معطنها.. ليتلقفها (سعد) كشعارات متداولة لدى الطبقة التي يتوهم الانتماء إليها ومشاركتها همَّها الفكري.. دونما وعي بمعطيات ذلك الهمَّ.. أو فلسفته الفكرية, فينساق إليها اعتباطاً.. أوشراكة مؤقتة تصله بأجواء ندمائه في جلسات السمر..! بينما يتبدى ((متعب)) نتاجاً محلياً لسني الطفرة ومخرجات التعليم العالي في سنواته الأولى ورحلات الابتعاث للخارج.
و يكشف المسار السردي.. عن أن كلا النموذجين (سعد ومتعب) ظلا وفيين لاشتراطات (السور).. وحمولات الصحراوي الذي ساقته تلك التحولات إلى ذلك الواقع.. وظلا نموذجين لقلق العلاقة المتوترة بين (الصحراء/ والمدينة).. على صعيد الافكار والتحولات والميراث التقاليدى القديم..؟
(بنات أبودحيم).. الأسطوري السردي:
(أبودحيم.. وبناته) صـ 17 هو الخيط السردي الغرائبي بإفضاءاته الأسطورية.. الذي انبنى كتلة رئيسة في الخط السردي العام للرواية.. ومنه تشكلت أبعاد تلك الأسطورة المتداولة في محيط (آل معبل) وبيتهم الطيني ومفردات وتفاصيل معيشهم اليومي.
وقد كان هذا التناص بالغيبي الأسطوري.. إضافة دلالية أغنت المنسوب الفكري للعقلية الصحراوية والمخيال النسوي.. الذي تشكل الأسطورة مكوناً ضمنياً في بنيته.. قد تحقق له قناعة يركن إليها العقل البسيط في تفسير الظواهر الواقعية التي تلح عليه.. وإسنادها إلى قوى غيبية.. ليستقر قلقه مؤقتاً.. حيث ترضيه مبرراته التأويلية.. ولينفك من (فوبيا) ذلك المجهول الممتد في عوالم الصحراء وتقلبات مواسمها..؟..
(تلك الأيام تحديداً قدم أبو دحيم وبناته إلى النخل وأبو دحيم كان تاجراً كبيرا لديه سبع بنات فاتنات لم يقبل أن يتزوجن خوفاً من أن تتسرب الثروة إلى غريب وتخرج عن العائلة.. وكان يمنيهن بأولاد عمومتهن الذين ذهبوا مع قافلة للعقيلات إلى الشام وسيعودون في موسم الوسم)
وإذا كان الفصل لا يتجاوز (خمس صفحات) من الرواية.. إلا أنه تمحور خيطا مفصلياً في المتن السردي يؤول الظواهر الجديدة.. وعليه تعلق الشخصيات تفسيرات لما انغلق فهمه عليها.. من الغوامض.. وتستشرف من خلاله معالم وتفاصيل الآتي.. عبر المشهد الحدثي السردي.. وكم الأسئلة الوجودية التي كانت (بهيجة) تعبر عنها بعفوية عندما تستكن إلى دواخلها التي اختمرت فيها كل تلك الأحداث.. لتورق أسئلة وحيرة مؤرقة..؟
وقد واكبتها مبكراً من إيراقها صبية إلى عنفوان أزمتها مع المكان.. لتلجأ إلى أورادها التي كانت تتلوها ساعة الاحتضار.. كما كانت (أم صالح) تعول عليها في إسناد قوامتها العائلية ونفوذها التسلطي على (البحريات).
كما كانت (بنات أبو دحيم) عبر ذلك التكثيف الرمزي لأسطورتهن.. إشارة نصية إلى رحلة العقيلات إلى الشام.. وهي الرحلة الواقعية المعاكسة من (الصحراء إلى البحر) التي حفلت بها مدونات تاريخ نجد القديم.. لتنزاح إلى مجالها السردي وحقلها الدلالي الجديد.. ولتلون أطياف عوالم الصحراء.. بإيقاع السامري الشجي.. ورحلة العودة الموعودة..؟
وإذا كانت موضعية تلك الأسطورة في (الصفحات الخمس) في بداية الرواية حضوراً نصياً (رمزياً) لها.... إلا أن امتدادها الدلالي.. وتعالقها مع الفصول اللاحقة.. ظل الخيط الدلالي الفاعل في شد الوحدات السردية إلى المتن النصي العام للرواية.. والمتناغم مع حقبة التحولات التي اعترت مسيرة أسرة (آل معبل) وكونت (البحريات) قيمتها المحركة وعمقها النصي الآسر.. وجذاذات انشدادها لمسارب الحياة.. التي نضحت بعد ذلك على (الآخرين).. في نطاق مكان واحد سجلت (أميمة الخميس) عبره جادة موضوعية للخطاب السردي النسوي المحلي.. الذي اجترح عوالم الرواية عبر مسار جمالي متقن.. على صعيد الرؤية والإجراءات الأسلوبية والتكنيك السردي، والأفق الجمالي لنص هو نص المكان بجدارة.
انتهت
***
لإبداء الرأي حول هذه القراءة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5215» ثم أرسلها إلى الكود 82244