أصبح يحب الظلام، واسعد أوقاته عندما يكون في غرفته، ملابسه مبعثرة على سريره وعلى أرضية دولابه وحتى رف كتبه القديم لا يوجد عليه شيء منها، وتحت الرف كان هناك رف جديد مسنود إلى الجدار... وتحت نور الغرفة الخافت، كان يتحدث.. ويتحدث..ويتحدث وفجأة علا صوته:
ألا تسمع..لا أريدك أن تكون هنا!
وعاد إلى رفه ينظر إليه، هو لا يُحب التغيير وحتى زوجته قالت له: الكتب لا تحتاج إلى رفٍ جديد، بل تحتاج إلى رعاية جيدة من قارئها، شعور الأنثى برز وظهر من خلال كلماتها وكأنها شعرت بالتغيير الذي ينشده، كان القرار وليد صدفة بدأت قبل شهرين فقط عندما سمع صوت جارتهم الأرمله وهي تُغني لطفلها لكي ينام، صوتها شجي وهو ينساب إلى مسامعه عن طريق منور العمارة، كان صوتها رخيما ونبراته حزينة وكأنها صنعت من مزامير داود، كل ليلة وهو يسمع صوتها، يتخيل أنها تغني له، لقد تعود على أن ينام هو كذلك على صوتها.
هو لم يرها أبدا ولا حتى زوجته، والجيران يقولون إنها وصلت ذات مساء، فهي لا تزال في حداد على موت زوجها، ولا تخرج أبدا، وبين الحين والآخر يزورها أحد أقاربها ليحضر لها ما تحتاج إليه.
وفي أحد الأيام كان خارجا من شقته، وتصادف ذلك أن فُتح باب شقة جارته، وخرجت منه امرأة عجوز حاملة آلة تسجيل، وقفتْ إلى جانبه أمام المصعد وقالت:
لم يعودوا يصنعوها بشكل جيد، وحفيدي لا ينام إلا على صوت والدته رحمها الله.