عن دار الكفاح وفي باكورة أعمال سلسلة (إبداع) صدرت للقاص والإعلامي جعفر الجشي مجموعة قصصية جديدة وسمها بعنوان (الجمجمة)، واشتملت على العديد من النصوص القصصية المتسمة بالقصر غير المخل.
يستهل الجشي أولى صفحات المجموعة بقصة (سيماء الموت) ليغترف من نهر الحكايا هذه الحكاية المعدة بشكل رشيق تدلف إلى عمق بحيرة العناء لدى الراوي على لسان فتاة العشرين حيث تصف لنا ومن تحت تراب قبرها مأساة جيل كامل من المحاولين دائماً الخروج عن نمط الحياة، أو سلوك المجتمع الذي لا يأذن فيه للمرأة إلا بحدود ما تمليه فرضيات قانون الأسرة أو القبيلة، فهي في قصتها أو حكايتها (سيماء الموت) تروزن لنا معزوفة الشمرد الذي دفعت حياتها ثمناً له.. فيما ينهض الراوي الآخر ممثلاً بالرجل الذي ينفض يديه من تراب قبرها وكأنه يقول لا شأن لي بها.. بل إنه يشير وبطرف خفي إلى أنها ستظل امرأة مهما حاولت أو بعبارته المحددة (المرأة هي المرأة).
فالاستهلال السردي في مجموعة الجمجمة للقاص الجشي جاء صدامياً يوقظ في ذات المتلقي بعداً تجذيرياً لحالة العذاب الذي تعيشه المرأة ولا تقوى مبارحته.. ليعنى القاص بأدق تفاصيل هذه المعاناة التي تبحث لها عن حلول إلا أن الرجل يظل هو المخول دائماً للتصدي لها، لأن المرأة ستظل (امرأة) بعرف المجتمع الذي لا يتزعزع عن رأيه.
أما وإن دلفنا إلى النصوص الأخرى سنجد أن نص (تلبسين الذرى) هو تتويج لحالة النص الأول إذ يعمد الخطاب الإفصاحي إلى تمثل حالة المرأة حيث يصف الراوي أبعاد علاقة المرأة بما حولها حينما تكون لديها رغبة الخروج من شرنقة أحزانها لكنها لا تحمل أي دوافع أو مبررات.
في القصة الثالثة (يوم ممطر ومخيف) تتويج لحالة الخطاب الأنثوي الذي يقتفيه القاص الجشي، لنراه في هذا النص وقد استحضر صوراً شتى للأنثى، حيث نرى وجه (وفاء) ونتتبع منعرجات ألمها وحياتها الشقية في البيت وخارجه لتتوجها في رواية مقتضبة عن مغامرة عاطفية مع رجل يَعِدُهَا أن يأتي، لكنه مجرد وعد رجل.
وها هو القاص الجشي يمعن في استعراض حالة (الجمجمة) (الأنثى) حيث تتقاطع مع الحكاية (الأنثى)، ومع قصة (طريق الملح) حينما يكشف على لسان الراوي بعداً آخر من أبعاد وجود المرأة وفلسفتها.. تماماً كالقصص السابقة تحضر المرأة بقوة، وها هي الآن في نص (طريق الملح) أكثر وضوحاً وأقسى تجربة، حيث شرع (الراوي) البطل في دراسة تاريخها العائلي في رغبة عبثية أي يعرف أسرار المرأة، لكنها محاولة فاشلة بكل تأكيد رغم محاولات الراوي التلصص على عالمها.
هي المرأة أيضاً في نص (ضحكة تلتهمها)، إذ يدرك القارئ أن الجشي لديه رسالة معينة من هذه النصوص التي تكشف عوالم متنوعة من حياة الأنثى.. تماماً تجدها منوعة الشخصيات فتارة نراها عاشقة، وأخرى مسكينة محطمة، وفي فضاء آخر نراها مكابرة قوية وفي هذه القصة (كالذي عثر عليه) نراها أستاذة جامعية تمارس لعبة غامضة وشقية.
تفرج القصص القصيرة جداً عن نمطية ما ألفناه في النصوص إذ تغيب المرأة عن النصوص القصيرة، فيما تعاود الظهور في نص (ظمأ الباقيات) فالمدينة الفارهة، والنساء، والقطط، والصبايا الناضجات والغزالة هي خليط عجيب من الإناث إلا أن الجشي يدوزن هذه الصور الأنثوية على معزوفة شجن عجيب يدخل المرأة تلو الأخرى في امتحان متطاول لا تعرف له بداية، ولا تتوقع له نهاية محتملة.
في قصة (الجمجمة) حيث حملت اسم المجموعة يخطط القاص الجشي للوصول إلى عقلية القارئ الذي يتوسم فيه حالة وعي حاد، وإلا ما أدخله في أتون هذا الصراع الوجودي المسترسل في عوالم الخفاء الذي يرسمه تارة في الحلم، وأخرى بشكاية الوجد، وأخرى في سيطرة الجنون على عوالم الشخوص..
ها هي قصة (الجمجمة) تنهض البعد الأنثوي إلا أنه (جماد)، يتمثل في (ساعة) ترسل عويلها، وها هي يد تحاول إخماد هذا الصليل، فيما تعتلج في ذات الراوي أفكار كثيرة تتواثب بين خطي الصحو والمنام في عقل الرجل الذي لم يعد مدركاً لحقيقة أن الصحو يناديه نحو دوامة الحياة.
فالحياة والضوء ونداءات الصباح تحاول أن تسرد الرجل من (حلمه الكابوسي) الذي لا ينفك بسهولة لفرط لواعج وأحزان تشاطره الحياة والمبيت، لتأخذ فضاءات القصة بعدها الخيالي الصرف حيث لا يقوى الراوي على مبارحة حلمه إلا بهذه الهجمة الشرسة من (جمجمة) تتفنن في إزهاق روح الثبات فيه.
في قصص مجموعة (الجمجمة) للجشي بعد فلسفي خاص يتمثل - كما أسلفنا - في تتبع صناعة الحالة الوجدانية لأي حالة أو حكاية، أي أن لكل حكاية حالتها التي تكرس مفهوم حياتها وبقائها في جميع النساء اللاتي حللن ضيفات على نصوص المجموعة وعلى وجه التحديد في قصة (ظمأ الباقيات)، حيث تداخلت كل معاني الأنوثة في رسم تفاصيل عناء الحياة التي تشكل بعداً تجذيرياً للمعاناة.
فالقصص جميعها محملة على هذا المفهوم الوجداني الذي يصوغ مشروعية حياته من تفاعل هذه الأضداد إلى هذه المفارقات تجتمع في نص واحد، لتكشف عن براعة القاص الجشي في سبر هذه العوالم.. فهو الذي نجح بشكل مميز في استقصاء هذه الأبعاد، ليولد لنا منها القصة تلو الأخرى، ومحتواه مؤكداً على أن حضور الأنثى طاغ حتى في اللوحة المعبرة للغلاف للفنانة - الأنثى - زهراء المتروك.
إشارة:
* الجمجمة (قصص)
* جعفر الجشي
* دار الكفاح - الدمام - 1427هـ
* تقع المجموعة ي (62 صفحة) من القطع المتوسط
* لوحة الغلاف للفنانة زهراء المتروك