* إعداد - محمد رضا
فيلمان من إخراج كلينت ايستوود معروضان حالياً على الشاشات الأمريكية وفي بضعة مناطق عربية وغير عربية. الفيلم الأكثر انتشاراً بينهما هو (رايات آبائنا)، الذي عُرض في منطقة الخليج وإن لم تستمر عروضه لأسابيع طويلة. مر الفيلم سريعاً لأن الجمهور العام غير متورّط في متابعة فيلم يتحدّث عن شخصيات مجهولة من قبل أكثر من خمسين سنة... وبالأبيض والأسود.
أما الفيلم الثاني، (رسائل من إيوو جيما) فعلى الأرجح لن يعرض مطلقاً في الصالات العربية رغم أنه من توزيع وورنر، الشركة التي توزّع عادة أعمال كلينت ايستوود كلها ولها ممثلون في كل ركن من العالم. والسبب هنا هو أنه فيلم ناطق باليابانية - إلا في أربعة مشاهد صغيرة - ومثل فيلم ايستوود الآخر، بالأبيض والأسود (الحقيقة كلاهما ملونان لكن الألوان الفاقعة تستخرج من النتيجة النهائية تبعاً لغايات فنية فيبدو الفيلم أقرب إلى اللالون مما هو ألوان). لكن أهمية الفيلمين لا علاقة لها بأي منطقة أو عاصمة تم عرضهما أو برقعة هذه العروض ولا حتى بنسبة الإقبال عليهما (في الغرب والشرق الآسيوي حقق كل منهما إيرادات جيدة) بل هي تكمن في البعد الإنساني الذي يتصف الفيلمان به والاختلاف الشديد بينهما وبين النوع الذي ينتميان إليه، ثم اختلافهما الأشد مع مفاهيم تاريخية متوارثة سبق لهوليوود أن تعاملت معها، وفي أحيان أكدتها أو عززتها.
(رايات آبائنا) و(رسائل من إيوو جيما) ليسا وحدهما في هذا النطاق. فاليوم هناك العديد من الأفلام المتداولة التي تتدخل لتغيير الفكرة المتداولة، سواء أكانت عن دور العرب في التاريخ الحديث مثل (بلديّون - لرشيد بو شارب) أو كانت حول السنوات الأولى من تأسيس وكالة المخابرات الأمريكية وما دار تحت الطاولة من مشاكل شخصية أدلت بدلوها في مهام الأعمال الرسمية مثل (الراعي الصالح - لروبرت دي نيرو).
كبرياء وبطولة
لكن الموضوع الرئيس هنا هو ذلك التغيير الذي تقوم به مجموعة محددة من كل هذه الأفلام في وجدان مشاهدها الأمريكي أساساً. ومع أن الأفلام الانتقادية كلها - شرقاً وغرباً - تقف دائماً في صف المعارضة، إلا أن النقد هذه المرة قادم من بعض أهم الشخصيات السينمائية في العالم اليوم... كلينت إيستوود، على سبيل المثال، هو أرنست همنغواي السينما. هو آخر مخرج من رعيل السنوات الذهبية في هوليوود. وهو أحد أهم وأكبر الأسماء في هوليوود منذ أن اخترقها نجماً في الستينيات ثم منتجاً ومخرجاً في السبعينات. أما روبرت دي نيرو فهو أيقونة بين الممثلين. صحيح أنه في السنوات الخمس عشرة الأخيرة مال إلى تكرار شخوصه وأدواره، إلا أنه حين يميل إلى نص جيّد يمنحه الموهبة التي يستحقها هذا النص ويترك أثراً. وهو فوق ذلك، رئيساً لأحد أهم المهرجانات في أمريكا الشمالية. ويطرح إيست وود في فيلم (رسائل من إيوو جيما) الذي يدور حول هزيمة الجيش الياباني في معركة جزيرة إيوو جيما التي كانت تمهيداً لهزيمة الإمبراطورية اليابانية بأسرها فيلماً لا مثيل له بين الأفلام الحربية من قبل؛ إنه لا يعامل العدو على أساس أنهم بشر مثلنا. ليس هذا فقط، بل الأكثر من ذلك أنه يخصص الفيلم كله عنهم وذلك بذات القدر من الاحترام الذي يكنّه مخرج فيلم حربي للبلد الذي جاء هو منها.
هناك عدة مشاهد من الفيلم تفيد بذلك وتنفي الصورة التي اكتسبناها من الأفلام الحربية في الأربعينيات وما تلاها من حيث أن اليابانيين كانوا بالغي السادية والعنف وأن الجندي منهم لم يعرف شيئاً عن سواه ولم يتعامل مع الآخرين إلا بصور مفعمة بالكراهية والعدوانية. صحيح أن الوثائق تؤكد أنهم تحلوا بكبرياء شديد جعلهم يقدرون الموت أكثر من تقديرهم الحياة خلال غاراتهم على بيرل هاربور حينما كانت الطائرة المصابة من طائراتهم لا تحاول الهرب لتحط في مكان آمن قبل احتراقها، ولا كان طائرها يهرب بالمظلّة، لكنه كان يهوي بها فوق البارجة الأمريكية لاستكمال الأوامر التي طُلب منه تنفيذها. (رسائل من إيوو جيما) يجد ذلك جانباً واحداً من الصورة. أما الصورة كاملة فهي مليئة بالأمور التي تستدعي التقدير. في أحد المشاهد، يجلس الضابط الياباني إلى المجنّد الأمريكي الأسير، والمصاب، ويحادثه كما لو كان يحادث واحداً من جنوده. وفي مشهد لاحق حين يعاود الضابط ذلك الجندي، ويجده مات متأثراً بجروحه، يقرأ رسالة كان كتبها لأهله. ليس هناك من داع لإضاعة وقته ووقت جنوده في قراءة رسالة سوى تقديره الروابط الإنسانية التي لا تعرف أي حدود.
في مشهد آخر يستسلم جندي ياباني طالباً النجاة من موت يعلم أنه محتّم. إنه يريد أن يعيش. يريد أن يعود إلى أهله بعد أن تضع الحرب أوزارها. يتقدّم صوب فرقة أمريكية رافعاً العلم الأبيض. تتركه الفرق بحراسة جنديين لا يطيقان البقاء في موقعهما فيقتلانه، بعد استسلامه.
الشأن البطولي
هذه بعض الصور المختلفة عن السائد - للفيلم الحربي الأمريكي على الأقل - التي نجدها في (رسائل من إيوو جيما)، وحين ننتقل إلى فيلم كلينت ايستوود الآخر (رايات آبائنا)، نجد أن لديه صوراً أخرى من النوع والثقل نفسه.
حتى الآن، ساد الاعتقاد لدى الأمريكيين أن البطولة هي من نصيب الجندي الأمريكي وحده، و(رسائل من إيوو جيما) يُفيد في أنه يعكس هذه الصورة، لكن (رايات آبائنا) يقلبها والأصح يفرّغها. إنه يأخذ النموذج الأعلى وينتفه ريشة ريشة. ففي موقعة إيوو جيما ذاتها وفي اليوم الخامس من القتال الضاري وصل بضعة جنود أمريكيين إلى قمة أحد الجبال الجرداء هناك وزرعوا علماً. كاميرا أحد مصوّري وكالة (أسوشياتد برس) كان هناك والتقط الرجال الستّة وهم يرفعون العلم على أنبوب حديدي ثقيل. الصورة تحوّلت إلى نموذج للبطولة والتضحية والبذل، لكن كلينت ايستوود، مستنداً إلى كتاب غير روائي وضعه ابن أحد هؤلاء الجنود، يقدّم الخلفية الحقيقة: الصورة الملتقطة لم تكن عفوية. العلم لم يكن الأول كما أشيع. بعض الذين تداول الإعلام أسماءهم على أساس أنهم كانوا من بين رافعي العلم (الصورة لم تكن تظهر الوجوه) لم يكونوا هناك، والجميع لم يشعر بأنه كان يؤدي شأناً بطولياً.
الأقسى من ذلك الطلب من ثلاثة مجنّدين القيام بمهام ترويجية لرفع الهمم في الوطن ولجذب المتبرّعين للغايات العسكرية وذلك بمؤازرة إعلام مستعد للوي الحقيقة خدمة لسياسة تهمّها النتائج وليس الأساليب. أحد هؤلاء المجنّدين كان يرزح تحت ثقل الشعور بأنه إنما يتاجر بدم الآخرين ويشارك في تزييف الصورة لدرجة أنه أدمن الشرب لينسى. بعد ذلك انتهى خيّالاً في الصحراء إلى أن مات من العوز والكآبة.
وقفة عربية
(بلديّون)، أو (أيام المجد)، كما عنوانه الأمريكي، هو أيضاً فيلم حربي، لكن عوض أن يتحدّث عن موقعة إيوو جيما، سواء من وجهة نظر أمريكية كما (رايات آبائنا) أو من وجهة نظر يابانية كما (رسائل من إيوو جيما)، يتناول فصلاً من تاريخ الحرب العالمية الثانية لم يتطرّق إليه أحد من قبل: الإسهام العربي في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي.
ولا حتى معظم العرب والمسلمين كانوا على بيّنة من هذه الحقيقة. فالأمر لم يكن مجرد بضعة متطوّعين، بل فرقة كاملة أسندت إليها مهام أساسية وخاضت الحرب تماماً كما خاضها الأوروبيون والأمريكيون. ثم تم تناسيهم من الذكر.
أهمية (بلديون) ليست فقط في أن هؤلاء الجنود المغربيون والجزائريون (وإفريقيون سود أيضاً) لم يتقاضوا استحقاقاتهم المادية والمعنوية أسوة بغيرهم من الجنود الذين ساهموا بتحرير فرنسا فقط، بل تم اختزالهم من التاريخ ذاته. كما أن المخرج الجزائري رشيد بوشارب ربما لم ينتهج فتحاً جديداً في الإخراج، لكنه قدّم موضوعاً لم تتطرّق إليه السينما من قبل وفي عالم ما بعد 9-11 هذا الموضوع يصبّ في الخانة الضرورية لهموم الإنسان العربي اليوم ويجعله قادراً على أن يقول لسواه: (لا تنسوا أنني أنتمي إلى ذات العالم الذي تقدّرون. لقد صنعت لكم وساهمت معكم وبذلت في سبيلكم. نحن متساوون).
سي آي أيه
في فيلم (الراعي الصالح)، نوع آخر من تغيير الصورة السائدة. روبرت دي نيرو، المعروف ممثلاً، يقدّم فيلمه الثاني مخرجاً ويختار هنا موضوعاً شائكاً هو موضوع تأسيس السي آي أيه في الخمسينيات. بطل الفيلم هو أول من استلم مهام تنظيم قنوات التجسس في فترة الحرب الباردة حين كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى ما هو يقين وثابت في مسألة الصراع بين الغرب والشرق مباشرة بعد سنوات الحرب العالمية الثانية. لكن هذا الإداري الذي أحاط حياته العاطفية بالكثير من العقد النفسية والنظريات الاجتماعية المنفردة، ارتكب أخطاءً كثيرة في مهام عمله ليس أقلّها استقبال عميل روسي في مؤسسته على قناعة من أنه منشق عن الكي جي بي. وحين سلّم روسي آخر نفسه محذّراً من أن الشخص الأول انتحل شخصيّته لم يصدّق الرئيس روايته ودفعه للانتحار. عائلياً، وجد نفسه في موضع ابتزاز بعدما سرّب ابنه أخباراً استفاد منها الأعداء. وفي مواجهة مع هذا الأمر يحاول بطل الفيلم تصحيح الخطأ بخطأ آخر. وفي النهاية فإن ما يكوّنه الفيلم هو صورة غير نموذجية عن المؤسسة التي عهد إليها الأمريكيون الدفاع عنهم كأول خط من هذا الدفاع. صورة ليست وردية تحمل الكثير من النقد والإيحاءات بأن الخطأ ليس منفصلاً عن أخطاء القيادة في مجالات أخرى.