عندما تتعمق التقنية أكثر في حياتنا وأعمالنا ونشاطاتنا، و تسيطر على أسلوب تعاملنا مع الآخرين، وعندما نتنفس التكنولوجيا مثل الهواء، وعندما نرسم معها قصة حب شبيهة بقصة قيس وليلى، عندما تظهر كل هذه الظواهر فلا بد من أن نتوقع ظهور المجتمعات الإلكترونية!
هل ترسل عشرات رسائل البريد الإلكتروني في الأسبوع؟ هل أصبح معارفك على الإنترنت أكثر من معارفك على أرض الواقع؟ هل تجلس فترات طويلة يوميا على الإنترنت وتصفح المواقع؟ هل تدخل غرف المحادثة وتقضي فيها أوقاتا طويلة؟ هل تشعر بالقلق والضجر إذا لم تفعل ذلك؟ إذا كانت معظم أجوبة الأسئلة السابقة ب (نعم) فنقول لك: عظم الله أجرك، فأنت فرد متميز في المجتمع الإلكتروني!
ما هي المجتمعات الإلكترونية ..؟
هي عبارة عن تجمعات بشرية في جميع أنحاء العالم تتواصل عن طريق الإنترنت واستخدام أدوات التقنية الحديثة. أي أن التواصل لا يتم عبر المواجهة الحسية، بل عبر الصوت والصورة والكتابة.
وهذا يعني غياب التفاعل الحسي والمعنوي وضمور الشعور بالآخرين ووجودهم المؤثر، بل غياب صفات بشرية كثيرة مثل الحب والتعاون والمودة والصدق ... إلخ
مظاهر هذه العزلة
هذه (العزلة الإلكترونية) التي يمارسها الكثير من البشر في عصر الإنترنت تحولت إلى ظاهرة مخيفة أثرت سلبيا على كثير من عوامل التطور والبناء الذاتي والمجتمعي .فأصبح هناك تراجع في المستوى الثقافي، وأصبحت نسبة القراءة في أدنى مستوياتها، وظهرت علامات التبلد الثقافي والمعرفي. صحيح أن الإنترنت تعطي زخما معلوماتيا ولكنه غير ممنهج وغير مبرمج ولا يحتوي عمقا فكريا .وظهر التراجع أيضا على مستوى التعامل مع الآخرين ومع المجتمع وتغيراته، فظهرت السلبية القاتلة لدى الكثير من أبناء هذه المجتمعات الإلكترونية، وظهرت الإنطوائية والبعد عن التفاعل مع أفراد أسرته أو أفراد مجتمعه، وظهرت الأمراض الجسدية نتيجة للفترات الطويلة التي يقضيها هؤلاء أمام الأجهزة .
ما سر هذه النزعة نحو
هذه المجتمعات؟
تتفاوت الأهداف والغايات في هذه النزعة الجارفة نحو هذه المجتمعات الإلكترونية، فمنها ما يكون علميا بهدف البحث والدراسة والتخصص، ومنها ما يكون نفسيا بهدف إثبات الذات والهروب من الواقع ومشاكل المجتمع. كما يقول أحدهم رافضا ترك الجلوس على الإنترنت: لا أستطيع ذلك، إنني أجد نفسي وذاتي هنا، إنني أجد من يحترم رأيي! هناك فعلا من وجد ذاته في هذا المجتمع الإلكتروني، هناك من أصبح له أصدقاء (افتراضيون) ثم تحولوا إلى أصدقاء حقيقيين، وهناك من أسس علاقات زواج ومحبة نتيجة لهذه الحياة الإلكترونية .وهذا ما يجعلنا نعيد التفكير في كيفية العلاقات الاجتماعية التي يعيشها أفراد المجتمع، وأن هناك فجوات كبيرة أدت إلى هذا النزوح الكبير نحو المجتمعات الإلكترونية.
لكن يجب أن لا ننسى أن هذه العلاقات الإلكترونية والصداقة هي وهم كبير يعيشه الأفراد، لأنه مبني على أسس غير صحيحة في العلاقات، كما تقول (شيري تيركل) في كتابها (الحياة على الشاشة: الهوية في عصر الإنترنت)، تقول: إن أجهزة الكومبيوتر تقدم وهم المعاشرة دون أن تفي بمطالب الصداقة.
لكن هذا لا يمنع أن هناك علاقات إلكترونية تحولت إلى علاقات طبيعية ناجحة لأنها وضعت تحت ظروف الهدف النبيل والتواصل الإنساني السليم والبناء!