أعادني العدد (550) الصادر في سبتمبر 2004م من مجلتنا (العربي) إلى ما قبل 47 عاماً، وهي سنة 1958م التي بدأت فيها الصدور في الكويت، وفي السنة التي تليها زار رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي الرياض، ومن ضمن برنامج زيارته زيارة تفقدية للمعهد العلمي الذي كنت طالباً فيه بالسنة الأولى تمهيدي.
أذكر أن إدارة المعهد جمعت التلاميذ بمختلف فئاتهم العام والخاص بالمعهد بقسميه التمهيدي والثانوي مع طلاب كليتي الشريعة واللغة في قاعة المعهد، وتبارى الخطباء والشعراء مرحِّبين بأحمد زكي ورفاقه؛ إذ كان قبلها مديراً لجامعة القاهرة.
وأذكر أن العدد الأول من جريدة القصيم 161379هـ 1 ديسمبر 1959م الذي صدر متزامناً مع هذه الزيارة قد ضمّ مقابلة صحفية مع أحمد زكي، وما زالت ذاكرتي تحتفظ بسؤال وجَّهه عبر الجريدة: (لماذا لا يكون هنا رابطة للأدباء والكتَّاب؟).
وعند عودتي للعدد الأول من القصيم وجدت المقابلة في الصفحة الرابعة، وفيها يقول: (هل توجد لهم روابط أدبية تجمعهم يتبادلون فيها مختلف الآراء والأفكار؟)، فأجيب بالنفي.
وقد سُئل عن عدم نشر شيء من إنتاج أدباء هذه البلاد في مجلة (العربي) فأجاب بأن باب النشر مفتوح لكل ما هو جيد من أي قطر عربي، وقال: (إن المجلة تُعنى بالثقافة العامة؛ لأن ما يصلح لقارئ قد لا يصلح لآخر، وهذا ما يقتضي التنويع في مادة المجلة).
وتمخَّضت هذه الزيارة عن نشر استطلاع صحفي موسَّع عن مدينة الرياض ص 66 95 نشر في العدد الخامس عشر لشهر شباط 1960م بعنوان: (اعرف وطنك أيها العربي).
وسأشير باختصار إلى جانب مما كتبه رئيس تحرير (العربي) أحمد زكي عن التعليم والثقافة وقتها في المملكة العربية السعودية ضمن استطلاعه عن الرياض.
عند مدير المعارف
(وكنا سبقنا فاتصلنا بمدير المعارف خريج آداب جامعة القاهرة الأستاذ ناصر المنقور، فرأينا رجلاً كالمحرك الذري دائم الحركة، ويفرق بينه وبين المحركات أنه ذو عقل وذو قلب. أما العقل فذو سعة، وأما القلب فدافئ. ومنه وعنه عرفنا من أمر التربية في المدارس وأمر الجامعة الشيء الكثير.وسنفرد لذلك حديثاً إن شاء الله؛ فالحديث في شؤون التعليم في هذه البلاد حديث طويل.
الأدب في الرياض
نزلنا من المدينة في فندق اليمامة، وهو أحد اثنين من الفنادق هما فندقاها الكبيران: اليمامة، وزهرة الشرق، وكلاهما من فنادق الدرجة الأولى، ولم نرَ في الرياض غيرهما من فنادق، لا من الدرجة الثانية ولا الثالثة. وأغلب الظن أن الاستضافة قامت بين الناس مقام الفنادق على عادة العرب الكريمة الأولى.
وازدحم فندق زهرة الشرق بالكثير من النازلين المقيمين، ومنهم أساتذة الجامعة، وقلّ الزحام في اليمامة فأنزلونا فيها.
وكانت ليالينا في اليمامة مجتمعات بالأدباء متصلة. يأتي الفوج منهم من بعد الفوج، ونتحلق، وتجري الأحاديث، في (العربي)، في الكويت، في الرياض، في الأدب، في كل شيء، وينفض السامر؛ سامر شباب أي شباب.. هم زهرة المستقبل، وهم أهل الرأي رجالاً بعد خمس أو عشر من السنين. وفي الفندق قدَّم لي أحد الزوار سيجارة، فاعتذرتُ لأني لست من أهلها، ثم تنبَّهت للذي حدث، ونظرت حولي فوجدت أكثر من مدخِّن، ستقول: إنهم جميعاً أجانب، وأقول: ربما، فكثيراً ما تعشى العين فترى أكثر مما ترى أو مما يجب أن ترى.
شيخ الأدباء
وذكرنا شيخ الأدباء الأستاذ حمد الجاسر ودعوناه للعشاء، فتعطلت سيارته فيما صنع المطر الغمر مع تراب الأرض من عجين أسمر. وطلبناه عصر الغد في حيث مطابعه قائمة في أقصى المدينة القديمة، فأدركنا ما كان شقّ عليه في مساء الأمس. وزرنا مطابعه فكانت ألمانية، وكانت من الجدة بمكان. وعليها يطبع جريدته الأسبوعية (اليمامة)، وهي في الرياض ذات مكانة مرموقة، ويطبع سائر حوائج الأسواق. قلنا: كيف الحال؟ قال: لا بأس إلى اليوم، ولكن مطابع أقوى سوف تنشئها الحكومة في الغد ستغمر كل صغير من المطابع.
وزارنا في الفندق وتحدثنا طويلاً.. إنه رجل ذو علم كثير، وأدب وفير، وذو حفظ غزير. وانتخبه مجمع اللغة بالقاهرة عضواً به عاملاً، فأقيمت له في الرياض الكثير من مآدب التكريم والحفلات وحضرها الأمراء إعلاناً بالرضى من بعد جفوة. لقد ذكرنا الرجل في جسمه وانبساط هندامه، وعمامة رأسه، وكده بين الأوراق في النهار، وسهره فوق الكتب بالليل، ذكرنا بالمؤلفين القدماء المتحررين من رجالات العرب. والرجل على تحرُّره ذو إيمان متين.
وساءنا أن يكون الأدباء لهم هذا الحال الصغير حيثما كانوا من الأرض، وساءنا أن يشتغل في الطباعة، صناعةً ومرتزقاً وكان القلم والقرطاس به أولى).
بدأ حبِّي لمجلة (العربي) يزداد بعد صدور هذا العدد، وبدأت أجمع أعدادها وأحتفظ بها، وكاتبت المجلة بالكويت راجياً تزويدي بالأعداد الأولى، وأحالتني إلى شركة التوزيع في بيروت، وقد وجدت بعض تلك الأعداد لدى بعض الأصدقاء أو في إحدى المكتبات عدا العدد الأول الذي لم أجده إلا بعد سنوات؛ حيث اشتريته بمائة ريال، وكان سعر النسخة وقتها ريالين. ومن حرصي الشديد على المحافظة على تلك الأعداد أذكر أني جمعت أعداد عشر السنوات الأول وجلَّدتها كل خمسة أعداد في مجلد، وبدأت أكوِّن مكتبة منزلية، فإلى جانب (العربي) جمعت سلسلتي (كتاب الهلال) و(كتاب اقرأ) من دار المعارف بمصر، وسلسلة كان يصدرها قدري قلعجي من لبنان تحت عنوان (العلماء المشاهير).. وغيرها.
وقد اضطررت إلى بيع المكتبة بعد ذلك لأتزوج بقيمتها، ولا يعني هذا أني قد فرَّطت في هذه الثروة مفضِّلاً عليها طلاق العزوبية، بل بدأت في تكوين مكتبة أخرى من جديد، و(العربي) له المكانة الأولى منها.
وجاءت نكسة 1967م وخاب الأمل الذي كنا نحلم به، وهو انتصار العرب على إسرائيل واستعادة الأرض السليبة، وكنا مجموعة من الشباب المتألم لما كان.. وقد بدأ اليأس يتسرب إلى نفوسنا والخوف إلى قلوبنا من المصير المجهول للعرب بعد أن استولت إسرائيل في فترة وجيزة على مجموعة كبيرة من الأراضي العربية تفوق أضعاف ما كانت تحتله إسرائيل في السابق، وبلغ التشاؤم مبلغه فتعاهدنا على أن نتغلب على اليأس وأن نحلم بعودة العروبة إلى ما كانت عليه من عز ومجد وسؤدد، وأن نبدأ بأنفسنا، وكان بعضنا قد تزوج حديثاً، والبقية لم يتحقق لهم ذلك، وكان اتفاقنا على أن نسمِّي أول مولود ذكر يأتي لأي منا باسم (يعرب)، وأول بنت باسم (عروبة)، وانتهت تلك الأحلام ولم يلتزم بهذا العهد سوى اثنين؛ أحدهما الدكتور فهد الدغيثر رئيس قسم القانون بجامعة الملك سعود سابقاً رحمه الله الذي سمَّى ابنيه يعرب وقحطان وابنته تماضر، والثاني هو كاتب هذه السطور.
أعود ل(العربي) المجلة التي كان لها الفضل في أن فتحت الباب لي ولكثير من الأدباء والكتاب ومكنتهم من الدخول إلى عالم الثقافة الواسع، وأذكر أن الراحل عبد العزيز مشري روائي وكاتب سعودي قال ضمن سرده لسيرته الذاتية: إن مجلة (العربي) فتحت أمامه الأفق المعرفي في قريته (محضرة) بقرب مدينة الباحة جنوب المملكة، وكان مصاباً بالسكري من صغره، وكان والده يعمل سائق سيارة أجرة بمدينة جدة ويشتري له علاج السكر (الأنسولين) ومجلة (العربي) فيرسلهما له من هناك إلى القرية.
نسيتُ أن أقول: إني كنت أشارك في مسابقة (العربي)، ولكني لم أوفَّق إلا باسم غيري؛ فقد كنت أشتري عددين من المجلة وأرسل أحد الحلول باسم أحد الأصدقاء الذي حالفه الحظ بالفوز بالجائزة الثالثة، وهي عشرة دنانير وصلت له وسلَّمني قيمة الجائزة، وذلك عام 1967م تقريباً، وهو عبد الرحمن العبد السلام.
وهذا العدد (550) الذي بدأ بكلمة رئيس التحرير (التفاتة أخرى إلى الشرق.. درس من الهند)، ويستعرض فيها مدى تمكُّن الديمقراطية الهندية الرائعة التي تُوِّجت بالانتخابات الأخيرة التي جاءت لمحة ذكاء روحي عن فقراء الهند ضد التعصُّب، وضد الساسة اللاعبين بنيران الطائفية والعرقية، وكأنه يقول لنا: إن العرب أقرب لتطبيق هذه التجربة الديمقراطية بشكلها الصحيح، فها هي الهند على رغم تعدُّد دياناتها وطوائفها وأحزابها ونسبة الفقر التي بدأت تقل على رغم العدد الهائل من السكان والمساحات الشاسعة مع ذلك تبقى الديمقراطية هي صمام الأمان.
ونجد قاسم عبده قاسم يكتب عن (حلم المشروع الثقافي العربي) الذي يقول بكل آسى: (ليس ثمة نظام تعليمي واحد في البلاد العربية بحيث يمكن أن يزرع توجهاً عاماً أو يخلق أرضية ثقافية مشتركة، بل إن ما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية أدَّت إلى تكريس القطرية والانعزالية بشكل مخيف).
وهذا أحمد أبو زيد يكتب عن (المجتمع المدني القوة العالمية الثالثة) ويؤكد أن النظام الديمقراطي يساعد أو على الأقل يشجع مؤسسات المجتمع المدني على أداء رسالتها على الوجه الأكمل بمشاركة المواطنين بطريقة فعالة في تكوين جماعات طوعية تهدف إلى تحقيق الصالح العام؛ مما يدفع هذه الجماهير إلى المطالبة بحقوقها. ونطوف مع (العربي) في أيام دمشقية، فمع الفلكلور والفن والرواية والشعر ومع فخري البارودي:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان
فلا حد يباعدنا
ولا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا
بغسان وعدنان
فهبوا يا بني قومي
إلى العلياء بالعلم
وغنوا يا بني أمي
بلاد العرب أوطاني
ونمر على (وجهاً لوجه) بين محمد أركون وجهاد فاضل.. وقضايا الفكر والثقافة في المجتمع العربي.. والبحث في الهوية العربية. ونستريح بين الصفحات المخصصة للاحتفاء بعاشق دمشق نزار قباني.. ونحيا وننحت مع منى السعودي الفنانة التشكيلية ومسيرة أربعين عاماً، ونقلب الصفحات لنمر على كنوز من العلم والمعرفة المتعددة التي سيطول استعراضها.. ولا آتي بجديد سبق أن اطلع عليه القارئ، ولكني لا أنسى ما تضمَّنه العدد في صفحاته الأخيرة من المفكرة الثقافية (الصحافة بوابة الإصلاح في السعودية)، وهي تصف بافتخار أول انتخاب لهيئة الصحفيين في المملكة، فهذه بداية وأرجو أن تكون بداية صادقة وجادة تقود مجتمعنا إلى مؤسسات المجتمع المدني.
بعد سنة ستحتفل (العربي) بيوبيلها الذهبي لبلوغها الخمسين من عمرها المديد، وهي ما زالت شابة فتية تأخذك بمفاتنها وتأسرك بجمالها، وهي متواجدة في كل مكتبة ولدى كل بائع صحف في الزوايا على امتداد الوطن العربي في مدنه وقراه وفي أمهات مدن العالم، وهي كما أعلم أوسع انتشاراً وأطول عمراً وأشمل معارف وفنوناً.. فإلى الأمام.