(1)
جريمة
أمشط جديلة الوقت، وأستيقظ كل يوم على فوهة الفقد، وأستمرئ أن تكوني إلى جانبي.. حكاية جدتي تلسعني كلما أومض في ذاكرتي أنك كنت يوماً تقودين ركبي..
لكن ذائقة الموت تترفق بحبل المسافات.. هويناً هويناً لتمضي بي نحو رجفة فائقة الاشتعال.. حنانيك فما أنا ناسك وما أنا ذلك الذي يصبر على لسعة النار.. نعم تلك اللسعة التي تمطريني بها..
ها.. أتدرين.. عندما كنت تقذفينني بالثلج الدافئ، وكنت أتمرغ في جدوله الصافي.. لم يعد دافئاً، أصبح في ذاكرتي جمراً.. استحال إلى كرة سوداء أرمقها يومياً كلما اقتربت منك.. لم يعد جدوله صافياً صارت الضفادع تتقافز حوله.. أصبح الآن مراً لدرجة الغثيان..
أمشط جديلة الوقت، كي أنتهز فرصة دون فائدة.. كي أقتنص عنف الماضي، وأدون مضغة شقية.. أتلمظ.. أتحسس قدري.. هل ما زلت أقف أم أن الهزة الأرضية التي حدثت بالقرب منا ذات نزهة ما زالت تتردد..؟ هل تجرؤ على ذلك..؟
مسخ يتلوى إلى جانب لوحة تشكيلية رسمتها بالأمس.. فتاة تمرق بجانب تلك اللوحة.. تدخل فيها، تخرج منها.. أصبحت الفتاة مكررة.. ثلاث فتيات.. غابت اللوحة.. لم أعد أشاهد شيئاً.. وجع حد اللوعة.. أعود للمسخ.. أحاول تشكيله من جديد.. ها.. عبثاً ليس بمقدوري أن أفعل شيئاً..
ها هو يغادر، يغادر، يمضي مهرولاً نحو البحر، ليغطس بعيداً عني.. حتى هذا الكائن المشوه الذي أفسد لوحتي لا يريد أن يطاوعني..
أمسك بالفرشاة من جديد.. الألوان تحجرت، والماء تيبس في الكوب، واللوحة بدأت تضطرب كأن مساً من الجنون قد اجتاحها.. تتراقص في الظلام، وتهرب، تهرب بعيداً نحو البحر تطارد المسخ.
(2)
صيد..
(أ)
فجأة دخل عدد كبير من النسوة في المنزل الذي كنت أوقفت سيارتي بجانبه، إذ كنت أنتظر أحد أفراد أسرتي بالمنزل المجاور.
كانت إحدى النساء تحمل طفلاً، وأخرى تحمل في يدها كتاباً، وثالثة كشفت عن وجه جميل يبدو أنها تدخل إلى حفلة بأناقة وأنفة وملابس زاهية. أخرى كانت من فرط سمنتها لا تكاد تدخل من الباب.. فتيات صغيرات.. نساء كالعجائز رغم أعمارهن التي تبدو صغيرة نوعاً ما.
واحدة تمضغ علكاً بغنج، أخرى بجانبها كانت تعكف على قراءة مجلة تحملها غير مبالية بما يجري حولها من فوضى، وثالثة تخرج مرآة من حقيبتها اليدوية لتختبر ما وضعته من مساحيق قبل أن تدخل.
مرت عليَّ خلال نصف ساعة أشكال وهيئات كثيرة، كنت أكتفي بالنظر والذهول فقط.
لم يكن لدي شريط لتخزين أي مشهد، ولكي لا يفلت مني أخذت أتلصص على ذلك المنزل متوقعاً أنني قادم على مغامرة من نوع ما، أو اكتشاف شيء أو سر من الأسرار.. دخلتُ...
المنزل يبدو عادياً جداً، بل وضيقاً بشكل ملفت، ولا أدري كيف عبر كل هذا العدد من النسوة.. أصخت السمع ملتصقاً بأحد الجدران داخل المنزل، فهالني أن سمعت صوتاً مدوياً.. هرج ومرج بالداخل.. شيء كغليان القدر.. قررت الخروج ليبدو كل شيء بالخارج يضج بالهدوء.
(ب)
كنت أمشي في الشارع ذات لعنة. كان أغلب الرجال الذين يمشون في الشارع عراة وبعضهم أشباه عراة.. ينظرون إلى بعضهم بعضاً دون أن يستغرب أحدهم من الآخر، رغم أن المدينة التي يسكنونها مليئة بالستر والعافية.
النساء بدورهن يسرْن في الطرقات بلباسهن العادي، ولكني لا أرى استغراباً من أحد..
فكرت كثيراً.. لعلي في حلم أو ربما في مدينة أخرى غير مدينتي.. إلى أن دهمتني فكرة أنني ربما أكون مريضاً، أو أنني فقدت توازني النفسي، وذهبت بعيداً إلى أن ربما أكون أنا الغريب في هذه (الحكاية).
هل يعقل ذلك؟ لا أحد من هؤلاء العراة ينظر إليَّ بريبة أو يهزأ من منظري.. إذاً...
لا بد أن في الأمر خطأ ما.. هل تبدلت الأحوال في المدينة..؟
لا أدري هل نمت طويلاً؟ أم أنني ما زلت مستيقظاً، لأنني أشاهد الآن أن الناس صاروا يتراجعون إلى الوراء ويغمضون أعينهم كلما مروا بي، والنساء يسرعن إلى منازلهن؟ فيما أنا لم أكن هذه المرة بحاجة لأنظر للمرآة وأكتشف أنني دون لباس.
(3)
ليس كل ما يلمع ذهباً
ليس هناك ما يثير الانزعاج.. كل شيء مرتب حسبما ينبغي.. تكنس بعينيها مكانها المفضل الذي ستغادره غداً.. وعند ذلك أدارت شريطاً لا تعرف كيف سيعمل عندما تكون هناك.. هناك قريباً من الجميع..
وتذكرت لماذا تحملت كل هذا العناء لتبتعد عنهم، لم تنتبه لتلك الدمعة التي سقطت.. لم تشفق عليها بل صبرتها بأنها لن تنزل بعد اليوم، ربما جاءت لكن ببعض الحلاوة المطلوبة.
ليس هناك ما يثير الانزعاج.. كل شيء نظيف، وكل شيء كما ينبغي أن يكون.. لقد رتبت كل شيء في مكانه.. نظفت الأرضية ولمعت الجدران.. ونظرت حولها (حسناً لم يبق شيء.. وقد حان الوقت أن أغادر هذا المكان)..
ليس هناك ما يثير الانزعاج.. سوى صحن ينكسر...
(أنت مهملة) قالت سيدة البيت.. وأغمدت سكيناً بظهر خادمتها.
(ماما.. ماما.. أنا أيس فيه سوي..)، قالت الخادمة.
(4)
صورة
على غير العادة
فيما أنا أنظر إلى وجه الموظف المكدود الذي بدا منهكاً إثر عمل يوم متواصل، جاءتني نزوة فضول غريبة جعلتني أحول نظري إلى ذلك المدير الذي حرص على أن تكون أرضية مكتبه صقيلة.. أخذ يحدق ملياً في ذلك العامل الآسيوي وهو يذعر مكتبه بالمسحاة؛ ليجعل من تلك الأرضية ناعمة.. ناعمة وبراقة، لكي يرى وجهه الناعم عندما يغادر المكتب.
(5)
سراب
أدهشني رأيه، بل لقد صدمني.. كنت فيما مضى أعتقد أنه يوافقني أفكاري، ويقف إلى جانبي في صف واحد ضد من يسميهم أصحاب الرأي الواحد.. ورغم اختلافنا في بعض الأمور، إلا أنني كنت أعتقد أنه لا يملك تلك النظرة المتسرعة.
نعم.. لقد قال لي بكل وضوح: تصرفاتكم تشبه أولئك الذين يقرعون خيباتهم ويندبون كلما مرّ عليهم طير شؤم، ويقولون غير عابئين: تلك هي النهاية.