الملك سلوان وزوجته راح
ثم نصل إلى (حكاية راح والملك سلوان) حيث يصل فارس في ترحاله إلى قرية يحنو عليه شيخ مسجدها ويُدعى أبا الندى وفي المسجد يتعرف على رجل فقير اسمه سلوان لكن أمره عجب. يصفه فارس بقوله: (كان سلوان من أسعد بني الدنيا وله عصاً قديمة يتوكأ عليها وينادي من آن لآخر. توكلنا على رب السماء وسلمنا بأسباب القضاء)، وله قارورة طيب صغيرة ما رأيت بعمري أصغر منها، لكنها على الرغم من صغرها ما فرغت قط من عطرها، يخرجها في كل يوم، ثم يطيبني ونفسه ويقول: (ترى أنشم رائحة الجنة يا أُخَيَّ؟ ترى أنشمها؟(24).
وكما أن الورد وهو العمود الفقري لمعظم الحكايات كما نرى، يقول الشيخ أبو الندى لفارس: (أنت تعرف يا فارس زمن الورود، فاخرج معي لبستاني، وخذ من الورود ما يلزمك، ثم بعه فلا بد لك من صنعة)(25)، وفي أول مجلس له لبيع الورد تصادفه امرأة حسناء اسمها راح فيعترف: (غضضت نظري لا بهاجس من تقوى، ولكن بفعل الذل الذي أصابني من أسر وهروب وعهد لم أوفِه بعد)(26).
ثم نرى في المشهد التالي الفجور والتقوى يستبقان على ساحة النفس البشرية حين يروي لنا فارس ما دار بينه وبني راح: (جعلت تقلب الورد بأنامل رقيقة يسمع لأساورها وسوسة تسألني وأنا أجيب خافض الرأس، ضحكت ثم قالت: ما بالك يا هذا أتخشى النساء؟ أجبتها في الحال: نعم. ضحكت وقالت: والله ما سمعت رجلاً يجيب بمثل ما أجبت! قلت: الآن قد سمعت. قالت: هات الورد كله. ناولتها السلة وذهبت نادت عليَّ: الثمن! لم أجبها وسرت لا ألتفت، دخلت المسجد وصليت)(27).
رجل يحاول في هذا الموقف أن يغلِّب التقوى على الفجور في نفسه، ولأنه مسلم كان لا بد أن يكون صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، فقد اعترف بداية أنه لم يغض بصره عنها عن تقوى، والآن عندما سألته إن كان يخشى النساء يجيب بنعم فتعجب وتقول: (والله ما سمعت رجلاً يجيب بمثل ما أجبت!) وهذه حقيقة لا عجب فيما قال فهو رجل يميل إلى التقوى ويرتاد المساجد ولا شك أن قد جال بضميره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت من بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء)(28)، وكان لا بد للموقف أن يؤكد في نفسه ردة فعل، ترك لها الورد، ولم يقبض الثمن وهرب إلى المسجد، حسب أن ذلك يُنجيه فإذا به يرديه.
ويدور حوار حميم بين سلوان وفارس يرسم صورة رائعة لمعاني الأخوة المجردة من المنافع والمحبة الصادقة في الله وحده. فهذا هو سلوان الزاهد في حطام الدنيا يقدم عصاه الأثيرة لديه هدية لفارس (وهبتها لك محبة وإخلاصاً لوجه اله تعالى حتى لا يبقى لي شيء من حطام الدنيا أُسأل عنه)(29). ثم يقول أيضاً: (تحسب أن السعادة في الإبقاء، بل هي في العطاء.. لذلك لا بد لي من إعطائك العصا) ويضيف: (لا يوجد لي شيء آخر أوثرك به سوى عصاي...)(30). نموذج حي للإيثار يستدعي إلى وجدان المسلم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (31)، وهذا بالضبط كان حال سلوان. ويختم سلوان تعبيره عن محبته لفارس بهذه النصيحة العميقة: (احذر المرأة!) فيُجيب فارس وهو يعلم ما يقصد: (أي امرأة ؟!) فيقول سلوان: (التي في قلبك) وهنا يجد فارس نفسه مكشوفاً لا يستطيع مداراة الحقيقة فيعترف: (سبحان الله من أخبرك؟) فيقول له سلوان بفراسة المؤمن متضمنة حكمته الأخيرة: (رأيت في عيونك الدنيا.. ولكن أعرف أن عصاي هذه خير لك منها)(32).
وهذا استنتاج ينسجم مع شخصية سلوان إذ ليس عجباً أن يصل إلى هذه الحكمة من له زهده في الدنيا وخبرته في الحياة وتقواه.. نعم عصا سلوان خير من الدنيا وما فيها. وإذا كانت المؤلفة تريد أن تستدعي إلى أذهاننا عصا موسى التي أبطلت سحر السحرة فهل تستطيع عصا سلوان أن تبطل سحر الدنيا من ناظري فارس؟!
وبما أن الله سبحانه ألهم نفوس عباده فجورها قبل تقواها فإن كل ما سمعه فارس من سلوان من تحذير وحكم لا تجنبه ما كان يحاول الهروب منه، فقد ترك بينه وبين تلك المرأة ربما دون قصد رابطاً حين رفض استلام قيمة الورد منها، بل نراه يخطو خطوة جريئة نحو الغزل ويتطور في التجاوب معها يقول فارس: (سألتني: أتعرف ما ثمن الورد؟ أجبتها: نعم، سألتني: وما هو؟ قلت: انتشاؤك لعبيره.. هنا ضحكت وقالت: هكذا أحب أن تكون، اسمع أنت أول من يعطيني شيئاً دون أن يطلب مني ثمناً)(33). وليس غريباً أيضاً أن تعجب امرأة في زمننا وكل الأزمان برجل يعطيها ثم لا يطلب ثمناً لما أعطى، فتعرض عليه راح العمل في بستانها لبيع ثماره وزهوره، فتتيح له بذلك الوقوع في غرامها ويبلغها بذلك ويفكر في الزواج منها وينتهي الأمر به إلى الاعتراف: (لا أذكر بعدها كم من مرة طلبت منها أن تتزوجني، في كل مرة كانت تضحك وتقول: أما أخذت ثمناً لوردك؟ فأجيبها: ليتك تنسين الورد وتذكرين صاحبه، في ذات يوم قلت لها: قد سئمت طول وقوفي بباب رضاك) ولكن جوابها له كان جارحاً: (أصدقك.. قد سئِمتُكَ لا بارك الله في الورد ولا بائعيه)(34). وأدرك فارس ولكن بعد فوات الأوان أنه كان في حياتها مجرد وردة شمتها يوم قالت له: (كأني قد اشتقت لرؤيتك يا بائع الورد...). ورمتها يوم قالت له (سئمتك..)(35).
وعاد فارس إلى سلوان متمنياً لو كان عمل بنصحه يقول: (سبحان الله قد حذرتني منها، ولكن الحي يعشق قدره وإن كان فيه هلاكه) فلم يعنفه سلوان أو يسخر منه أو يهدده بنار جهنم وإنما بحكمة التقيّ المحب يُذكرّه بهذه الحقيقة البشرية: (لا تلم نفسك، فالنفوس مُحبب إليها العبث، ولكن الواجب ألا يطول عبثها)(36).
وليُخفف سلوان عن صديقه فارس يروي له مأساة حياته ليعتبر، كان سلوان ملكاً فَقَدَ أقرب وأحب الناس إليه في الدنيا، أخاه رضوان ثم ابنه حسان بسبب الحسد ثم ابتلاه الله بعشق امرأة فعل المستحيل ليصل إليها ويتزوجها ولكنه ظل يخشى عليها من حسد الحاسدين، ومن كلفه وغرامه بها أرسلها لبلاد بعيدة بعد أن زوّدها بمال كثير. ولكن شوقه إليها يغلبه فيتنازل عن ملكه وماله لابنه ويهيم على وجهه بحثاً عن محبوبته حتى يجدها، فلما عرفت أنه ترك ملكه وبلاده وماله من أجلها تنكرت له وقالت: (بل أتيت لتأخذ ما أعطيتني بعد أن أخرجتني كالطريدة من قصرك، فلعلهم خلعوك لسوء تدبيرك أمور دولتك، وتأتيني اليوم تريد خداعي بحبك!)(37)، ويكتشف فارس أن هذه المرأة هي صاحبته راح التي وقع في شباكها وهنا يتذكر تحذير سلوان له من المرأة ولكن بعد فوات الأوان.
وينهي الملك سلوان حكايته بسر هدايته وعودته إلى الله تعالى بقوله: (خرجت راح من قلبي بعد أن أخرجتني من مملكتي، ودخلت إلى سكينة ما ظننت أن مثلها توجد يا فارس، تحول القلب وشغلت بأمور طال غيابها عني، وملأت حياتي بشراً وتقى، صرت من حملة القرآن وأصحاب الليل، فسبحان من لا يشغله شيء عن شيء)(38).
توبة وأخوه ومعشوقتهما
وتبدأ (حكاية توبة وأخيه ومعشوقتهما) بظهور توبة الاسم المرافق لسُليَّ على عنوان الرواية، إذ يجد فارس في ترحاله رجلاً يدفن الأموات في مشهد فيه الغموض والجلال والحكمة ما يستدعي مشهد صلاة فارس في حلمه على الميت الذي بدأت به الرواية. المكان الذي وصل إليه فارس مكان معركة قتل فيها أناس كثيرون، وجد رجلاً قد شمر عن ساعديه وأمسك بسيف عظيم، استعان به لشق الأرض الصلبة، وهو يردد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك.. اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك... ثم أخذ يدفن الأموات واحداً تلو الآخر)(39).
يشفق فارس على الرجل من هذا العمل الشاق لكثرة الموتى فيطلب أن يعينه فيرفض، ثم أخذ يرتل بصوت جهوري ملأت أصداؤه المكان: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} (40) الله هو المعين ويقول: اذهب إلى حال سبيلك واتركني(41). ابتعد عنه فارس وظل يرقبه من بعيد فلما رآه يغشى عليه من التعب عاد إليه فوجد نقشاً على سيفه مكتوباً عليه (العز الدائم لحامله توبة بن علي السالمي) ويصحو توبة من غشيته ويكتشف فارس المزيد من خصاله الحميدة وسجاياه الطيبة وورعه وتقواه. ولما أصبح عليها الصباح دعاه فارس لطعام فوجده صائماً، فاستحيا من نفسه فتوقف عن الطعام فقال له توبة: (يا فارس أكمل.. وليصم قلبك عن غير الله، وعقلك عن تدبر المعاصي، ثم الغفلة عنها، يا فارس ليس لك إلا أن تتجرع صدقاً، فيكون الود لك خالصاً والعمل لك فلاحاً، والحياة لك منجاة، والصوم جُنة للصادق كما أن الصلاة صلة للخاشع، أما من يلهث خلف هواه ثم يقول: ربي إني صائم، ومن تسوقه الغفلة ثم يكبر ويقول اللهم قد عبدتك. كُل يا أخي كُل..)(42). ويفارق فارس توبة بعينين مغرورقتين بالدموع حزناً على فراقه مواصلاً ترحاله، ويترك في نفوسنا أسئلة هل سيعود إليه؟ وكيف ستكتمل قصة توبة؟ وما هو سره؟ ومن هم هؤلاء القتلى الذين كان يدفنهم وهو رجل صالح كما رأينا؟
وتنتهي أحداث هذه المرحلة بعودة فارس إلى مركب العطاء وصديقه مراد وهناك يلقى سُليَّ فيراها لا تزال تحوك سجادتها، فيعتذر لها بأنه فقد الكتاب ثم أضاعه فيفاجئ به في يدها، ويقرر فارس العودة (إلى من صار أعز الناس إليَّ.. والعجب يا مراد أنني ما عرفته إلا يوماً وليلة)(43) يقصد بذلك توبة بن على السالمي، فيغادر فارس ويحزن مراد على فراقه ولكن لا بد مما ليس منه بد.
يعود فارس إلى توبة فنعرف منه بقية حكايته: توبة وأخوه عبد الله ينتميان إلى قبيلة بينها وبين قبيلة أخرى ثأر قُتل فيه المئات وعلى مدى عشر سنوات ظل القتلى في قبيلتهما وحدها، لهذا اتفق توبة وأخوه عبدالله وصبيان صغيران على أن يقتلا شيخ القبيلة الأخرى فرمياه بحجر من نبلتين فأصاباه في عينيه فمات. كان والدهما غائباً فلم تمسهما القبيلة بأذى حتى يرجع ولكنه لم يعد وكبر توبة وعبدالله فكانا على أحسن ما يوصف به امرؤ في الشجاعة والحسن والمروءة. أحب عبدالله فتاة تدعى رباب وأحبته ولما تقدم لخطبتها عادت الثارات القديمة، فرُفضت خطبته وتم تزويج رباب بابن الشيخ المقتول وحُكم على توبة وعبدالله بالطرد فهاما على وجهيهما في الفلاة، فمات عبدالله عشقاً وصبابة ودفنه توبة في الغار الذي كانا فيه، وبعد خمس سنين رأى توبة أخاه عبد الله في المنام يرسله إلى رباب، فذهب إليها فما أن رآها حتى وقع حبها في قلبه، واصطحبها إلى قبر أخيه، وعند عودتها أمسك بها قوم زوجها فقتلوها، وبعدها نشبت حربٌ بين القبيلتين أفنتهم جميعاً وهذه هي بداية قصة توبة عندما رآه فارس في بداية تعارفهم يدفن أمواتاً، فهؤلاء الأموات هم هؤلاء القتلى من القبيلتين.
يموت توبة بعد أن يقول لفارس: (يا أخي اشتقت أن أنفض غبار الأيام عني...)(44)، وبعدها يقول فارس واصفاً موت توبة: (تركني لم أقدر أن أتحرك... بعد مدة، سرت إلى حيث سار، فوجدته يصلي، سلم ثم استلقى على يمينه ولم يتحرك، اقتربت منه فوجدت أنه قد مات، حملته إلى حيث الغار الذي فيه أخوه عبدالله، ودفنته بجواره وقفت عند مدخل الغار، فإذا بقمر السماء ضياء هنا تذكرت قول توبة: (وحق من أنار بك ليلي هذا الأظلم إني لا أبالي بصروف الزمان فما هي إلا أيام تمضي، وأحلام تفنى، وأجساد تبلى)، التفت فإذا بالنور يفيض إلى داخل الغار ليكسو قبر توبة بسناه، وودت لو أنني رأيت رباباً، رحم الله عشاقها)(45).
الحب والإيمان والحرية
هذه هي الحكايات الأساسية والتجارب العميقة التي مرّ بها فارس في رحلة هروبه من الدنيا وفتنها وملذاتها. والفكرة المحورية في جميع هذه الحكايات التي عاشها أو سمعها فارس كما رأينا يغلب عليها الزهد في الدنيا وتصوير مدى ضآلتها وحقارة شأنها بكل ما حوت من بخس وثمين. وتجيء الحكايات الفرعية الصغيرة التي تمر بنا أثناء الحكايات الكبيرة لتعطي عمقاً فكرياً وفلسفياً للحكايات الأساسية. وتضيف إلى الفكرة الرئيسية أبعاداً أخرى ذات ارتباط واقعي بجهاد الإنسان في الحياة الدنيا.
ففي (حكاية الفتاة والراعي) تمر بنا قصة القرد الذي يطحن الجواهر، وما تحمله من رمز لسرعة ما يمكن أن تسحق به أحلام الإنسان في هذه الدنيا، فقد كان القرد يجلس أمام رحى عظيمة يحركها ببطء وروية، تحيط به سحب غبار لامع تصدر عن الرحى، وكأنها آلاف من الأنوار، وتخرج من بين الحجرين صواعق صامتة ذات ألوان عديدة. إذ يناول القرد الراعي كيساً صغيراً مملوءاً جواهر بكل ألوان الحقيقة والخيال وطلب منه أن يذهب به إلى (صاحب الموازين) ثم قال للفتاة: (آمال الدنيا أسحق، أحلام الآخرة أطلق.. حدثيني عن أحلامك دعيني أضحك.. فما الأحلام إلا قطرات نور وضاءة تسقط من قلب الشمس لتبهج أعمارنا المغبرة، خذيني إلى برك أحلامك المتلألئة، لأعرف أي طيف من جمال سيملأ السماء عندما أطلق أشجانك الحبيسة)(46).
وفي (حكاية صاحب الموازين) نستمع لفلسفة الحب والإيمان حيث تذهب الفتاة والراعي إلى قلعة صاحب الموازين، وهي قلعة عظيمة تدلت منها كل أنواع الموازين والمقاييس المعروفة والمجهولة. وعندما انشقت مثلما يُفتح كتاب كبير، نزل صاحب الموازين وذكر لهما أنه لا يزن الأشياء، وإنما يحافظ على الموازين من نسيان الإنسان وأنه وجد للزمن مقياساً وللمدى، ووجدت مقاييس للمشاعر والعواطف، والآلام، وكذا للعرض والعمق، للبعد والقرب للطول والثقل للأفكار والأحلام، للرغبات والمخاوف كل له مقاييس. ثم يدور حوار فلسفي بين صاحب الموازين والفتاة عن الإيمان والحب فيه مدعاة للتأمل في حكمته، يقول صاحب الموازين: (للأسف لم أجد مقاييس لشيئين: الإيمان والحب) فتجيب الفتاة: (ربما ليس لهما مقياس، فالحب والإيمان يُعرفان، لا يُقاسان، ولا يجدهما إلا من صارع الأوان فعرفه فانياً، وكاشف الأمور فصارت للمنتهى جسوراً)(47).
فالحب الذي تعنيه المؤلفة هنا هو حب الله والإيمان هو الإيمان بالله ولا يُدركهما إلا من زهد في حطام الدنيا الفانية واتخذ من دنياه جسراً يعبر به من الواقع الفاني إلى الحقيقة الخالدة عند ربه، وهذا التوجه يتفق مع النزعة المتطهرة لدى المؤلفة المنعكسة على الشخصيات الرئيسية، فهذا هو فارس آل رخوان يؤكد هذه الحقيقة في بداية الرواية: (زهدت فيما يحسد عليه البشر، الأبناء والزوجة والذهب والأبقار وكل تجارتي طلباً لرحمة ربي)(48)، وفي آخرها نسمع (توبة بن علي السالمي) يختمها بقوله: (إي لا أبالي بصروف الزمان، فما هي إلا أيام تمضي وأحلام تفنى وأجساد تبلى)(49).
ومما يؤكد سيطرة فكرة الزهد في الدنيا وكل ما هو دون حب الله على المؤلفة أننا نجد الملك سلوان الذي ترك ملكه من أجل امرأة يسأل عابر سبيل: (ما تقول في امرئ زهد في ملكه؟) فيقول له الرجل: (لما اهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدوا ريح الدنيا وفقدوا ريح الجنة غُشيّ عليهما أربعون يوماً من نتن الدنيا)(50). وتنتهي قصة الراعي والفتاة بموت الفتاة فيبقى وحيداً حزيناً فيقول له صاحب الموازين بحكمة بالغة تحث على الزهد في كل شيء إلا في الله الخالق المبدع: (في بعض الأحيان يا ولدي تكون الكلمات التي لم نستطع نطقها هي أعز الكلام لدينا.. اذهب الآن يا بني واعلم أن شيئاً يختبئ في الزمن. فلا تأمل في مفقود فتحزن، ولكن انتظر الزمن حتى يقرضك نعيماً بعد زهدك فيه، ويعيرك فضلاً أمسيت غنياً عنه.. اصبر، الزمن يعطيك غناء نفس عن كل شيء سوى مبدعها)(51).
أما في (حكاية سعد الماضي وصاحبة القصر) فتعكس المؤلفة فكر المسلم الذي يجعل من الإسلام فلسفة حياته فمن واقع قصتها نستطيع أن نفهم معنى حديثها لفارس عن فلسفة الحب والحرية؟ (الحي لا يُحبس، والحر لا يستعبد، تعرف يا فارس أن كل عضو لك يمكنه أن يستعبد بل هو حبيس حتى تطلقه، والعاقل من البشر من يمضي عمره في تحريرهم)(52).
وهذه الفلسفة تلتزم بالتصور الإسلامي لمعنى الحرية، فالإنسان في الإسلام حر لا يستعبد وتكتمل حريته عندما تكتمل عبوديته لله وحده وحين يتحرر من كافة أنواع الولاء أو العبودية أو الخضوع لأشخاص أو أفكار أو شهوات، لهذا قالت السيدة لفارس: (إن كل عضو لك يمكنه أن يستعبد بل هو حبيس حتى تُطلقه، والعاقل من البشر هو من يُمضي عمره في تحريرها) أي في تحرير أعضائه وهذا يتفق مع التصور الإسلامي الذي يرى أن أعظم الجهاد وأصعبه هو جهاد النفس، ومجاهدة النفس في إبعادها عن الشهوات والهوى. والإنسان المسلم مُؤتمن على نفسه، وأعضاء جسمه تشهد له أو عليه يوم القيامة وفق قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (53).
وتتكئ المؤلفة على فكرة تحرير أعضاء الإنسان بالتقوى وفقاً لما جاء في الحديث القدسي: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها)، إنه رب العالمين يهب محبته ضماناً من فوق سبع سموات يحفظ بها أعضاء جسم المسلم إن هو أدى فرائضه بالنوافل.
أما قول السيدة لفارس عن علاقة القلب بسائر أعضاء الجسم (أما لو أنك تمكنت من القلب، لانفكت باقي الأعضاء تباعاً، فترى وقتها بعين الحر، وتمشي برجل الهميم، وتصافح براحة الكريم، وتتكلم بلسان العليم، وتتشنف أنغام المنتهى، وتنتشي عطور السكينة، وتكون لك مذاقات الخير كلها)(54). فهذا تضمين لما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)(55).
عبثية الخلود وغاية الوجود
وقد وصل إلحاح فكرة الزهد على المؤلفة من خلال الشخصيات والأحداث لدرجة تصوير عبثية الخلود والوجود المادي في أكثر من موقف أهمها جميعاً ما حدث للملك سلوان بعد أن صدم بتنكر زوجته ومعشوقته راح فنجده عندما يصل إلى خربة ويجلس عند سورها يقول: (أضعت كل شيء.. أضعت كل شيء)(56) فإذا به يسمع هاتفاً يقول له: (... يا عبدالله أنا لبنة من هذا الجدار الخرب استنطقني ربي، اعلم أنني كنت ملكاً مثلك ملكت لألف سنة، ثم مت وصرت رميماً ألف سنة، ثم أخذني خزاف وصنعني إناء استعملت لألف سنة، حتى تكسرت وصرت تراباً لألف سنة، ثم أخذوني وعملوني لبنة وأنا في هذا الجدار، فما كان كل ذلك إلا كحلم نائم فمن سمع بقصتي لا يغتر بدنيا)(57).
ومن هنا نجد أن فكرة عبثية الخلود لا توظف لذاتها، وإنما توظف لتعطى بعداً واقعياً لا فلسفياً لفكرة غاية الوجود الإنساني وهو تقوى الله وعبادته بالزهد في الدنيا متاع الغرور، لهذا نجد أن النسيج الفكري لا يتوقف عند مرحلة التغير من الاغترار بالدنيا فحسب بل يصل إلى مرحلة واقعية لا تجعل من الزهد في الحياة الدنيا هروباً سلبياً من الحياة بل مواجهة حقيقية معها بالترفع عن دناياها لصالح المسكين والمحتاج والمحروم والفقير، وهكذا تقوده حكايته مع (مرتل القرآن) الذي يسمعه في السجن إلى مرحلة أعمق من الصبر على أذى الدنيا، إلى الإحسان لأهلها وبالتالي الظفر بالجنة. كان فارس سجيناً بعد ما أسره القراصنة، وذاق مرارة ذل العبودية للمرة الثانية، وإذا به يسمع ذات ليلة من سجنه من يُرتل قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (58).
ثم إذا به يسمع الشيخ يقول له: (لن تنجو مما أنت فيه حتى تفعل ذلك)(59) ويعجب فارس إذ كيف ينعم على الآخرين وهو عبد لا يملك ما ينفق ويكمل الشيخ ترتيله: {إِنَّ هَؤُلاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} (60).
ثم يقول له الشيخ: (إن يومك الثقيل ليس يومك هذا لن تنجو حتى تفعل ما ذُكر)(61) وحمد فارس ربه إذ إن ما جاء في وصف الجنة كان من فضة وليس من ذهب فهو يكره الذهب ويعجب كيف يتقاتل الناس فيها على شيء يذهب اسمه ذهب (أقسمت على نفسي إن نجوت أن أنفق أي ذهب لدي لوجه الله، كرهت الذهب ومن يحبه. فوالله إن اسمه شؤم وحبه لؤم، علام يحب الناس شيئاً ذهب)؟!!(62).
البطل التراجيدي مسلماً
وبعد.. لقد عاش فارس كل هذه الأحداث وخاض غمار التجارب التي رأينا، وعرف من أمور أصحابها، وخالطهم، ورأى منهم ما وصلوا إليه. بدأ رحلته بمشهد الموت والآخرة في رؤيا النعش الذي ظهر واختفى، وكان من يذكره بطول اجتراحة السيئات. وسمع من الأقوال والحكم من الشخصيات التي عرفها وأهمهم توبة والملك سلوان، وصل لدرجة التحذير المباشر من فتنة المرأة، فلم يتعظ ولم يستطع أن يمنع هوى نفسه من الميل نحو راح فوقع كما وقع غيره وكما يقع الرجال في كل زمان ومكان في هذه الفتنة فلا يستطيعون لها مقاومة إلا من أدركته رحمة الله.
هذا ما يجعلنا فنيا نشبه فارس بالبطل في التراجيديا الإغريقية الذي يرتكب الخطأ أو يقع في الإثم لا لخبث في نفسه، ولا لنية فاسدة فيه، وإنما لخطأ في التقدير ولضعف اقتضته طبيعته البشرية وهو ما يسميه أرسطو Hamartia التي تعني (الخطأ التراجيدي) في كتابه الشهير (فن الشعر) عن نظرية الدراما. وهذا ينطبق على فارس الذي لا شك في نيته الطيبة التي خرج بها مبتغياً وجه الله بالزهد في الدنيا تاركاً خلفه المال والزوجة والولد فإذا به دون أن يقصد يقع في براثن أخطر ما في هذه الدنيا من فتن وهي المرأة، وإذا بها تقهره كما قهرت قبله كل الأبطال الذين التقاهم في رحلته أمثال الملك سلوان وتوبة وأخيه عبد الله وغيرهم، فما أفادت العبرة إلا بعد الوقوع في التجربة.ومع ذلك يظل هناك فارق بين الرؤية الأرسطية لنهاية البطل والرؤية التي يقدمها الأدباء الإسلاميون كل من زاويته، لكن أغلبهم يجمعون أن البطل لا ينتهي النهاية المأساوية التي ينتهي إليها البطل في الدراما الإغريقية، وحتى ولو انتهى نهايةً حزينة فإنه قد لا يموت في آخرها، ذلك لأن العبرة ليست في موته ولكن في التجربة التي خاضها. ولهذا نجد بطل مها الفيصل فارس لا يموت في آخر الرواية. ففارس الذي شهد مصارع العشاق مادياً ومعنوياً لابد أن يعيش ليقدم نموذجاً جديداً للإنسان المسلم في حركة جهاده الحثيث للانتصار على شهواته وهواه والارتقاء بروحه إلى مستوى الرسالة التي رضي أن يحملها بعد أن أبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها.
ورغم أن الرواية تحمل اسم شخصين هما (توبة) و(سُليَّ) حتى يظن القارئ للعنوان أنهما يستحوذان على أحداث الرواية منذ البداية حتى النهاية كما هو معروف في الصياغة التقليدية لقصص الحب المشهورة مثل (قيس وليلى) في تراثنا العربي و(روميو وجوليت) في الأدب الإنجليزي إلا أن هذا لم يحدث في هذا العمل الفني، فإذا جاز استعمال مسمى البطولة فالبطولة موزعة على عدة شخصيات، فالحكايات المتداخلة لكل منها بطل، أما سر وضع الروائية لاسمي توبة وسُليَّ على عنوان الرواية فما هو إلا استكمال للتشكيل الرمزي في الرواية ولتحقيق التوازن بين كفتين تتصارعان على قدر الإنسان، كفة الغواية وكفة الهداية، فسليّ بشخصها ونسيجها وكل ما تحتويه غرفتها من زينة ما هي إلا رمز لزينة الحياة الدنيا التي تحبس الناس في نسيجها، فيقعون أسرى لها لا يستطيعون منها فكاكاً إلا من رحم الله. أما توبة فيمثل الزهد في الحياة وزينتها، ورغم أنه وقع في شباك أجمل مما في الحياة الدنيا، وهي المرأة، إلا أنه ضرب المثل في الزهد والتقوى وحسن الخاتمة.
عوداً على بدء
اتخذت الكاتبة من فكرة خلق الإنسان من تراب وعودته للتراب شكلاً فنياً دائرياً لروايتها، ومنهاجاً فلسفياً ظل يراوح طوال الرواية، فقد بدأت حكاية فارس بحلم رأى فيه حفنة من تراب يلقيها عليه مجهول يصلّي معه على نعش لم يلبث أن اختفى، فلما ارتاع قال له المجهول: (أتحسب أنك في حلم؟ هذه الحقيقة)(63) (ص7). وظل الرجل الذي رآه فارس في الحلم مجهولاً لنا وتنتهي الرواية كما بدأت بحفنة من تراب إذ نسمع توبة يقول لفارس: (يا فارس ما أنا إلا سائر أمشي هونا فتطأ قدماي مسكني ومثواي، تحسب هذا الثرى تراباً)؟(64) وقبض قبضة من تراب ثم قال لفارس: (أنت في حلم... هذه الحقيقة). ورماه بها وضحك بعدها قائلاً: (وهاك قبضة أخرى). ثم رفع يده نحو السماء أمسك بنجمة جعلت تتلألأ في كفه، ثم ألقاها في حجر فارس وسأل: من المسكين؟ ألا ما أحقر من كانت قبضة يده دون عالمه الذي خلق لأجله). ثم أضاف: (قد اشتقت يا أخي لنفض غبار الأيام عني)(65) انه شوق المسلم النقي التقي للقاء الله، للحياة الأخرى التي هي في عقيدته خير وأبقي وإيماناً بوعد ربه: {وَالضُّحَى{1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى {2}مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى{4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى {5} أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى {6} وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى {7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى {8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ {9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ {10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(66)، فكان هذا خيار توبة وخياره الوحيد. وبعدها يصف فارس ما حدث لتوبة: (تركني... لم أقدر أن أتحرك بعد مدة، سرت إلى حيث سار، فوجدته يصلي. سلم ثم استلقى على يمينه ولم يتحرك. اقتربت منه فوجدت أنه قد مات)(67).
نعم بدأت الرواية بالموت والتراب وانتهت بالموت والتراب وبدأت رحلة فارس لمجهول يقول له: (أتحسب أنك في حلم هذه الحقيقة)(68). وانتهى بتوبة يقول له العبارة منها) أنت في حلم.. هذه الحقيقة)(69).
ورغم أن المؤلفة لم تصرح باسم الشخصية في بداية الرواية إلا أن التشكيل الفني للأحداث والنسيج الفكري للشخصيات يدلل على أن الشخصية المجهولة التي ظهرت لفارس في بداية الرواية وصلى معها هو توبة نفسه، أما شخصية الميت الذي احتواه النعش فلن يكون غير عبد الله أخو توبة. والأهمية تكمن في مدى فهمنا للفكرة التي حملها لنا هذا الشكل الفني الدائري الذي استحدثته المؤلفة، وما يحمله من رمز، فالنعش ليس إلا حقيقة الموت التي يتشاغل عنها الإنسان في سعيه الحثيث وحرصه الشديد على زينة الحياة الدنيا، حقيقة تغيب عن الإنسان حتى يكاد يحسبها حلماً.
أما قبضة التراب فهي البداية وهي النهاية، وما بينهما هباءٌ منثور إلا الذين يفعلون ما أشارت إليه الآية القرآنية التي تلاها الشيخ في السجن أمام فارس {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}(70)، وقال له: (لن تنجو مما أنت فيه حتى تفعل ذلك)(71).
هكذا يبدو أبطال حكايات مها الفيصل وهم جميعاً أصحاب تجارب منهم من صُدم بدنياه في الماضي مثل الملك سلوان الذي أضاع ملكه من أجل امرأة، وتوبة الذي وقع في غرام معشوقة أخيه عبدالله المتوفى، ومنهم من صُدم في الماضي وهو بطل الرواية الأساسي فارس الذي خرج مهاجراً زاهداً في دنياه مخلفاً وراءه كل ما يربطه بها من زوجة وأولاد فينطبق عليه قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(73)، وبالرغم من أنه يلتقي بسلوان الذي يزيده من الله قرباً ويحذره من فتنة امرأة إلا أنه يقع في غرامها ويُصدم بها حين ترفض الزواج منه بعد أن كانت قد أغرته.
ومع ذلك فهؤلاء الأبطال أمثال فارس وسلوان وتوبة يجاهدون أنفسهم بالزهد في الحياة الدنيا، يرجون الخلاص من أوضارها والعودة إلى الله بالإخلاص له والإنابة إليه والعمل لنيل رضاه والأمل في دخول جنة الله الموعودة لعباده الصالحين، جنة وصفها الله لعباده بقوله: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)(73)، جنة قال عنها نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)(74)، لذلك رأيناهم لا يأسفون على ما فاتهم من أمور دنياهم ولا يحرصون على نعيمها ولا يلقون بالاً لمسألة الخلود فيها بل يحلمون بما سيؤولون إليه فيها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف من يدخلها بأنه (ينعم ولا يبؤس، ويخلَد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم)(75) لهذا فلا عجب أن نرى سلوان يشد على يد صديقه فارس قائلاً: (ترى أنشم رائحة الجنة يا أُخَيَّ؟ ترى أنشمها؟)(76).
وبهذا تكون روائيتنا مها الفيصل قد قدمت في رأيي نموذجاً للرواية الإسلامية جديد في شكله وأصيل في مضمونه، إذ حطمت أعمدة الشكل التقليدي الموروث في أدبنا عن الرواية الغربية، واصطنعت لنفسها شكلاً فنياً مستوحى من أساليب السرد الحكائي في تراثنا العربي، وقدمت من خلال ذلك رؤيةً خاصةً لمكابدة الإنسان المسلم في رحلة الحياة وهو يحاول السمو بروحه فوق غريزة التراب التي تشده إلى الأرض، وذلك في إطار التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة.
ومن هنا أعد هذا العمل الفني غرساً جديداً في تربة الأدب الإسلامي من حيث نوعية الطرح الفني وخصوصية الرؤية، وهو طرح تميز بالجرأة في الإبداع، ورؤية غاية في الالتزام برسالة الأديب المسلم في الحياة.
***
هوامش
(24) نفسه ص 148
(24) نفسه ص 149
(24) الرواية ص 151
(24) نفسه ص 152
(24) رواه البخاري
(24) الرواية ص 152
(24) نفسه ص 153
(24) سورة الحشر 9
(24) الرواية ص 153
(24) الرواية ص 154
(34) نفسه ص160 161
(24) نفسه ص 160
(24) الرواية ص 162
(24) نفسه ص 172
(24) نفسه ص 178
(24) الرواية ص 134
(24) سورة الإسراء 13
(24) الرواية ص 127
(24) الرواية ص 130
(24) نفسه ص 189
(44) الرواية ص 204
(24) نفسه
(24) الرواية ص 64
(24) الرواية ص 67
(24) نفسه ص 11
(24) نفسه ص 204
(24) نفسه ص 173
(24) الرواية ص 71
(24) نفسه ص 105
(24) سورة النور 24
(24) الرواية ص 105
(24) رواه البخاري
(24) الرواية ص 77
(24) الرواية ص 177
(24) سورة الإنسان 10
(24) الرواية 139
(24) سورة الإنسان 27
(24) الرواية ص 141
(24) نفسه ص 137
(24) الرواية ص 7
(24) نفسه ص 203
(24) نفسه ص 204
(66) سورة الضحى 11
(24) الرواية ص 203، 204
(24) نفسه ص 7
(24) نفسه ص 203
(24) الرواية ص 39
(24) سورة الإنسان 27
(24) سورة النساء 100
(24) رواه البخاري ومسلم
(24) رواه البخاري
(24) رواه الترمذي
(76) الرواية ص 148