الشوارع تخلو عادة من حياة في صيف هذه المدينة اللاهب، ومقفرة سوى من سيارات بعض ساكنين متأخرين عن أعمالهم، أو لا أعمال لهم..! والحي الذي يقع ضمن دائرة عملي، فقير ومهمل، وعملي كموزع فواتير الكهرباء.. وقاطع خدمات أيضاً!، كما يحلو لأصدقائي التندر مني!، أو (أبو ظلمه) على ذمة شك نما لي انهم يستخدمونه كلقب لي في غيابي..!، عمل بسيط ليومين في الشهر، يومان يتواليان، يوم للقراءة، وآخر للفصل يضطرني لحمل مفتاح قفل أحمر. السائق بجواري متجهم دائماً، منذ اللحظة التي نخرج منها من مكتب التوزيع. كم كنت أتمنى أن أكون مثله..!، لو أنني سائق، بالتأكيد سيكون شعور الذنب أقل، وسيكون معاشي لصغاري أكثر هناء وتقبلاً حتماً.
هذا الصيف الحارق الذي يشوي المدينة والطرقات والقطط الضالة، يشوي صغاري الذين ينتظرون مرتب عملي الرديء آخر الشهر، طمعاً في إجازة لمدينة ساحلية شرقاً أو غرباً، مديري يعدني بترقية إن قمت بعملي على ما يرام، وهذا ال(ما يرام) يتطلب فصل أكثر عدد من العدادات، دون مشاكل مع أحد، وبأقصى سرعة ممكنة..!، سكان الحي الفقير يتوالدون بكثرة، ويتوالد معهم وحولهم كل شيء رديء، ليس أقلها أكوام القمامة المتعفنة، ولا أكثرها ضجرهم من الحياة البائسة ولا سوء أخلاق معظمهم وأوكار الفساد المستشري بينهم. زملاء العمل في الأحياء الشمالية، يقومون بعملهم أكثر طمأنينة ورضا، السكان موفورون ويقضي أكثرهم الصيف في الخارج، لذا فهم خارج احتياج برودة لا تجيء إلا مع كهرباء، وقد لا يدفعون فواتير أصلاً!
أجوب الشوارع ونظراتي تجوب صناديق العدادات المهملة، أتذكر صديق مهنة في مصلحة المياه، وكان قد حكى لي، عن موقفه المحرج مع عجوز في ذات الحي تترجاه ألا يقطع عنها الماء من أجل فاتورة بقيمة عشرين ريالاً، من الممكن أن يقوم هو بدفعها كصدقة في مسجد جمعة، لعجوز أكثر غنى وأقل تعففاً. يقول صديقي انه طبّق نص النظام، وفصل العداد، وواصل عمله، ودموع العجوز تنهمر مع تمتمات بسيطة، ليواجه صديقي في شارع آخر رجلاً ضخماً ذا سحنة سمراء، خارجاً من داره التي ضمن قائمة الفصل لديه، وبينما هو يهم بفصل عداد الماء، حتى أمسك به الرجل الضخم، وأقسم إن لم يعده لوضع التشغيل المفتوح، وإلا كسر رقبته!. تذكر صديقي، أن مديره لن يمنعه من كسر رقبته، ولن يقوم بأقل من زيارة عابرة في المستشفى، فأعاد الماء مرغماً. وعندما تذكر صديقي، العجوز التي تبكي قبل قليل في الشارع الآخر، أخذته شهامة متأخرة!، وأعاد لها الماء!
مع كل استعمال لمفتاح القفل، كنت أتساءل.. ترى ماذا لو حدث لي مثلما حدث لصديقي..؟ كيف سيكون شكل رقبتي إذا طبقت نص النظام..؟ وإن كانت البيوت لا يسكنها أمثال هذا الرجل الضخم.. ما حجم الأثر النفسي الذي سينتابني، فيما لو فصلت الكهرباء عن عائلة فقيرة، بينها طفل صغير نائم في ظلمة غرفة، أو عجوز تحت مكيف صحراوي رديء، أو مريض أو.. أو. أصبحت أشعر بذل لا حجم له، من عملي هذا، لكن ما العمل إذا كانت قائمة الفصل، هي أول مرآة يواجهها صباحي المحبط..؟، ما العمل.. ولا فائدة من تكرار طلبات نقلي لقسم آخر، كطباعة الفواتير مثلاً، أو على الأقل نقلي إلى أحياء أخرى، أكثر غنى ورفاهية كبقية زملائي الراضين.
كل نوبة عمل، أقرأ وأعاين وأفصل، وأوزع أوراق همّ على عدادات منطفئة، ذلك اليوم قمت بعمل كثير حتى بقيت تلك الدار، آخر دار في الحي..!، تسعين فاتورة وزعت، قرأت أرقاماً ضئيلة وأخرى عالية، عشرون عداداً فصلت، وعشرون دعوة على الأقل تلقيت..!، ما ان حركت مفتاح القفل للدار الأخيرة وسكنت كهرباؤه، وبينما زميلي السائق يرسل لي ايماءات لم انتبه لها تدعوني للهرب!، وإذا بالرجل الضخم الأسمر، يخرج كمارد يزمجر، (من ابن ال... اللي طفّى الكهرباء..؟)، وحتى أفكر بالهرب، وإذ بإياقة ثوبي في يده، وجسمي يرتفع كما الياقة، وقدماي تتأرجحان كبندول مهترئ!، وتبتعدان عن أرضية ترابية متسخة، ومفتاح القفل اللعين في يدي! لم أدر ماذا أفعل..؟، عيناه الجاحظتان، تتقدان شررا، وتطلبان مني إعادة التيار الذي سكن للتو، والسائق هرب!، وكل شيء تخلى عني، إلا مفتاح القفل!. قدماي المعلقتان، ووجهي أمام الجدار المهترئ، والعداد الصامت، كلها تدعوني للتعاون مع الرجل ومع مفتاح القفل. أعدت زر العداد لوضع التشغيل، ليطلق هو ياقة ثوبي من يده، لتخرّ قدماي على الأرض المتسخة، يأتيني الصوت الهادر.. (ثاني مرة ألزقك في الجدار..! فاهم..!؟).
كفأر جبان، مشيت خطوات لم أعدها..!، السائق تراءى لي من بعيد ولم يقترب!، حتى دلف الرجل الضخم للداخل. انتهى عملي الرديء ذلك اليوم حزيناً ومحبطاً، وفي شهامة متأخرة.. وبلا وعي مطلق.. سألت السائق بحسرة: أين دار العجوز..؟